كثير من القراءات تشكل ذائقة الإنسان، وتقود جزءاً من توجهاته ورؤيته للعالم، لذلك فإن الذين لا يقرؤون يفتقدون فرصة الإطلالة على عوالم بلا حصر، أما الذين يكتبون أو يدعون أنهم ينتجون أدبا دون أن يميزوا بين فرانز كافكا بكل سوداويته الانتحارية وكازانتازاكي بعمقه وثرائه وفلسفته، هؤلاء لا يمكن أن يكون لإنتاجهم ذائقة، وكذلك فلن تتكون لهم ذات يوم بصمة إبداع شخصية وحقيقية، الكتابة حول الاعتيادي واليومي والتفاصيل والانفعالات كتابة مهمة وحارة وهي نوع من أدب شائع، لكنه يجب أن يمتلئ بالكثير من الإحالات والتجارب والحقيقة المتصلة بذات الكاتب وفكره وفلسفته في الحياة، لا يمكن للكاتب أن ينطلق قافزا في الفراغ بعيداً عن هويته وتفاصيل مكانه وبيئته، ودون أن يقرأ ويتمعن في نتاج هؤلاء الذين شكلوا إرث البشرية الضخم من السرد المبجل فيما يعرف بالرواية والقصة. عرفت شابة تكتب قصصاً قصيرة، وقد نشرت مجموعتين، وانتهت كما تقول من تأليف رواية بصدد نشرها، أعطتني الرواية وطلبت رأيي فيما تكتب، قرأت جزءاً من "الرواية" مجاملة لها أولاً وثانياً لكي أعرف بالضبط ما الذي تخفيه هذه الفتاة تحت قلمها أو داخل قلبها، وتريد إخراجه لنا عبر هذه الرواية، فوجدت أنها تملك شيئا قليلا من الثقافة والتعبيرات الشعرية ولكن لا رؤية عميقة للأمور ولا اتكاء على موروث قرائي أو نهج سردي واضح، ثم أنه لا شخصية محددة للبيئة وللشخوص ولا زمن أيضا فكأن الرواية تحدث في لا مكان ولا زمان! ذكرتني كتابتها بموضوعات التعبير التي كنا نكتبها أيام الإعدادية، وحين سألتني عن رأيي نصحتها بأن تتروى قليلاً وتعيد قراءة روايتها جيداً قبل أن تدفعها للنشر . لم يرق لها كلامي بطبيعة الحال، وبرغم الخلل الواضح في بناء الرواية، فقد تمكنت من العثور على ناشر مغامر تحمس لنشر روايتها التي لم توزع سوى 100 نسخة كان معظمها إهداءات مجانية ، أما الأهم في قضية النشر وتشجيع المبدعين عندنا في الإمارات - من وجهة نظري - فهو وجود بعض الصحفيين من الذين يطلقون على أنفسهم نقادا، يقومون بحراثة المنتج الأدبي الإماراتي الجديد من القصص والروايات ثم يؤلفون فيها وحولها قصائد لم يتسن لـ(جارسيا ماركيز) أن يحظى بمثلها قبل أن يفقد ذاكرته إلى الأبد ! أحد هؤلاء (النقاد) ينقل حرفياً قراءات كتبت لكتاب مختلفين في بلده، مع بعض التغييرات الطفيفة لتبدو قراءة في كتاب ذلك القاص أو تلك القاصة، مع ثرثرة مجاملة لا تغني ولا تسمن، بينما أحوج ما يحتاجه هذا الجيل الجديد من الشباب الذي بدأ طريق الكتابة الابداعية شيء مغاير تماما، يحتاجون ورشاً نقاشية، وقراءات معمقة وعلمية لنتاجاتهم شريطة أن تتوافر فيها المصداقية والموضوعية ومنهجية النقد العلمي المتجرد البعيد عن الحسابات والمجاملات المدمرة ! هي التي تضع الإصبع على جوانب القوة والخلل بأكبر قدر من الروية والحساسية إذا كان قصد من يدعي النقد تطوير أدوات الكاتب المبتدئ الذي يخطو خطواته الأولى في طريق الإبداع بينما في داخله كائن نرجسي يعشق المديح والإطراء وإظهار علامات التبجيل والإعجاب، وحين يكون هذا الكاتب لا يزال صغيراً ومبتدئاً فإن كثرة الإطراء والأضواء تجعله سابحاً في الفضاء بخفة ورقة مبتهجاً بما يسمع، لكنه حتما حين سيفيق سيكون الوقت قد فات تماماً ! ayya-222@hotmail.com