ترى أحدهم يقرأ بنهم، لكن لا تستشعر فيه أثر القراءة، حواره ضحل وأسلوبه معتم. لا زال يفكر كمن لم يقرأ كتاباً قط، أو كمن لم يرَ ولم يسمع ولم يعرف. أين الإشكالية؟ صحيح الرجل يقرأ بنهم، لكنه يقرأ ما برأسه، لا ما بالنص. وهذه الإشكالية العقلية النمطية. فهي تبحث دوماً عما يثبت أنها على حق، تفتقد مهارة «الإصغاء» إلى الآخرين. تقفز إلى النتائج: «أترى؟ قلت لك». لا تنتظر لتعرف القصد، والنية، والأبعاد والسياق، المهم أن تثبت أنها كانت على طول الخط على حق. الاعتراف بالقصور، بالعجز عن الفهم، للحاجة للاستفسار، للسؤال، للاستزادة من المعرفة، كلها أمور تنم عن نضج حضاري. لكن العقلية النمطية تعتقد أن ختم المعرفة مطبوع على عقلها، وأن كل ما توصلت إليه من أفكار هو نهاية الخط، لا شيء بعد ذلك، وكل ما يعترضها من معارف ما هو إلا أدوات تثبت بها صحة أفكارها ومواقفها والتي كثيراً لا تنمّ عن أي موقف حقاً. ماذا نحتاج؟ نحتاج إذا فتحنا كتاباً أن ندعه هو يتكلم إلينا، وأن «نصغي»، لا أن نبحث فيه عما يدور برؤوسنا نحن. الإصغاء أم الفضائل، لو امتلكنا فضيلة الإصغاء لما قفزنا على عنق أي أحد لقطعه، ولو معنوياً. لدينا قوالب جاهزة نرمي فيها كل من نظن أنه يختلف معنا، فنحن المقياس الأزلي للحق والحقيقة. ولا يهم إن كان هذا المقياس متحولاً مع الوقت وفقاً للهوى والظرف. القوالب الجاهزة سهلة، لا تحتاج لجهد تفكير. التفكير متعب، لا يقوى عليه أي أحد، فالناس مشغولون، علينا أن نستيقظ في الصباح ونستعد للخروج لأعمالنا وأن نقلق بشأن المرور ومتى سننتهي من العمل وماذا سنأكل اليوم ومتى نعود إلى البيت لننام ونستيقظ في الغد، لدينا جدول مزدحم من الإجراءات الروتينية للقضاء على اليوم. نحن نقضي على الأيام، نستيقظ كل يوم لكي نقضي عليه. الحقيقة أن الأيام لا «تعاش» حقاً دون تفكير، ولكن لماذا نتفكر إذا ظننا أننا عرفنا كل شيء وانتهى الأمر. إحياء التفكير النقدي الحر وسيلتنا الوحيدة للخروج من مأزق الإقصاء، و»الإصغاء» خطوة أولى لتحقيق ذلك؛ فربما ما ظننته صرخة مزعجة هو فقط همسة لإيقاظك.