- مرات يتساءل الإنسان لما البدوي ذو الطبيعة المتنقلة بحثاً عن الكلأ والماء، يظل يحنّ لوطنه ومنزله، ويبكي الدارس والرقيم؟ على الرغم من أنه من متبعي القول والأثر: «محل ما ترزق ألزق»، ترى.. ما هو سبب هذه البكائية على الأطلال، وذكر المنازل في ثقافة البدوي المحب للترحال، الماكث على عجل في كل الأمكنة ذات الطبيعة المتشابهة، رمال، وبيوت من الشعر، ومرعى للإبل والدواب، وربما بئر ماء معطلة، أو عين ناضبة أو غدير ماء أهدره الوادي، هذه كل أموره، والمهيأة للترحال الدائم، أو لحرقة العطش، حيث لا نخل يجبره على المكوث، ولا زرع يعتني به، ولا دور مشيدة، لكنه حينما يجنّ الليل، ويتسامر مع قمره ونجومه، تنبرئ له تلك اللغة المتسربلة بالمعاني، ويطرب فجأة لذكر سليماء وتنعم، ويبكي حينها أطلالاً غير واضحة المعالم، إلا في ذاكرته الهاربة من الرمضاء إلى النار! - مرات يتساءل الإنسان، ما هو ثمن القناعة؟ وكم نجاهد لنحظى بها، أو نبلغ درجة من الرضا تقربنا إليها! ونكون في تصالح معها، لتستمر حياتنا تنعم بذلك الإيقاع غير اللاهث نحو مفازات من التيه والمسير، والأحلام الطائرة، غير أن القناعة من الأمور والقيم الهاربة للأمام دوماً وعجلاً، وكثير من الناس حينما يصلون إليها، يجدون مكانها فارغاً، وقد استبد بهم وَهَم اللآل، وعطش السراب، أما هي فقد سبقتهم بخطوات بعيدة للأمام! - مرات يتساءل الإنسان لما النخيل من بد كل الشجر، يغدو حانياً ومؤنساً، ويضفي على الأمكنة شيئاً من البركة، والخير الكثير؟ لما في رؤيتها مسرّة تنساب ببرودة ناعمة في النفس، وكأن عينيك اكتحلت بالاخضرار؟ لما يغدو البحر بجانبها أجمل؟ لما تصبح الرمال المحيطة بها، وكأن عشبها زعفران، ورياحها أبرد؟ لما إن جاورت الجبل، صار للجبل صوتاً أهدأ، وغابت وحشته، وكان من القلب قاب قوسين أو أبعد؟ - مرات يتساءل الإنسان لما إن غادرتنا الأشياء، أو انفرطت من بين أيدينا، أو تناسيناها في غفلاتنا وغابت، عضضنا أصابع الندم، وحين كانت ملء الحضن، ومزر اليد، لم نعض عليها بالنواجذ؟ - مرات يتساءل الإنسان لما يتوحش، ويستعر بني آدم، ويستهويه فعل قابيل ذاك الجد الأزلي؟ ويظل في ذاك الغي والبغي، لا يعرف ندماً على ذلك الدم المقدس الذي يريق، ولا يتذكر أنه مخلوق من طين، حتى يقرع بابه نصل سكين أو خبر حزين!