تدور عيناك يمنة ويسرة، تتفحص الوجوه المارة العجلى، أو وجوه البائعين في الحوانيت، والمنادين في أسواق القدس، يهود ربما حريديين، أو سفارديم، بقبعاتهم السوداء، وجدائل شعر أسود فاحم، أو محمر تتدلى على الأكتاف، أطفال صغار بـ «الكيباه سروجاه»، رهبان مسيحيون بملابسهم الثقيلة السوداء، ونعمة البشارة على وجوههم، حجاج بيت المقدس، يلوذون بكنيسة القيامة، أو عائدين للتو من زيارة كنيسة البشارة في الناصرة، جميعهم جاءوا يوفون بنذورهم. تسمع نفير بوق قرن العجل من جانب قصي، ويهوداً ملتصقين بالحائط، يتمتمون، وينوسون برؤوسهم إلى الخلف والأمام، يتلون مزاميرهم، ويدخلون في شقوق الجدار أوراقاً صغيرة، يخبئونها مع الأمنيات. لا تعرف كيف ترى هذه المدينة من داخلها أو خارجها؟ أبو علي بائع الصحف والكتب، الشاهد على المدينة وأحداثها، أبو الفضل الطويل بسيارته البيضاء ذات اللوحة الصفراء، والذي يمكن أن يجنبك زحام القدس، أو يدلك على قدس الأسرار، وكيف تمددت إسرائيل بوطأة التاريخ على جغرافية القدس، وتسلقت جبالها. تدخل شاقاً السوق، باعة الخضرة والفواكه، يصيحون: «تفضلوا يا عمي..» وما أن تخرج من القدس، وقد اكتحلت عيناك منها حسناً، ميمماً شطر مدن طالما أحببتها، سربتها لك الأحلام الكثيرة، وأقوال مدرسين كانوا ينشدون العروبة، ونبوغ أهلها، مدن كانت عصيّة، وهي اليوم تفتح لك، تتهيب من اللقاء الأول، مثلما هي بعض المدن الأخرى التي تفرض عليك الخجل في حضرتها، فتبقى غائباً في جبة الطالب الغريب أو الدرويش المريد، مدينة مثل عكا أوقفت مدافع نابليون، وبقيت قلعة من صخر، ومن صبر، لا جار لها إلا البحر، تدخلها فتقول، لِمَ التاريخ يقرع بوابات بعض المدن، ويغفل أخرى؟ عكا ما زالت ترقد على رماد العابرين. حيفا وحدها والبحر، وإغواء الأزرق، وما يفعل بالنظر، وبالبشر، يافا، وتتساءل لِمَ للبرتقال لون آخر؟! نابلس.. وثمة أنفة من ذلك الزمان، وحده المساء يأتي بالحكايات والمسرات، وما خبأه الركبان. الخليل.. هناك وطأة من القداسة، ورهبة النص، وما سُطّر على الرقيم، يتخالف على حفظ أسرارها رجال بجلاليب لونها من حرائق البن، وتعب أسفار أقدام حفت من مدينة إبراهيم «أور» إلى مشيئة الرب. الناصرة.. وجه البشارة والتسامح، وقلب طفل صبي. أريحا وتلك النخيل المغبرات كلعنة أبدية على العائدين من التيه بلا نبي، ولا ألواح ولا قبس من نار، لا غير تل أبيب الجاثمة بلا بركة، متساءلة: لِمَ تلك المدن تضاء بنجوم السماء؟!