الضياع، أحد أكثر العناوين دراماتيكية في حياة كثير من الناس، ليس بالضرورة أن نعرفهم أو أن يكونوا مهمين بمناصبهم أو شخصياتهم، هم مهمون لإنسانيتهم على الأقل، مهمون لأنهم مثلنا أنت وأنا وذاك الذي يجلس قريبا مني أو منك، متكئا على ذراعه متوسدا خاصرة الوقت الهانئ ومتطلعا إلى الغد مثلي ومثلك بكثير من الطمأنينة الى حد ما، ألسنا من هؤلاء البشر الذين يضج بهم فضاء هذا الوط العربي الذي قيل لنا مرارا وتكرارا حتى صدقنا أنه وطن مهم، كبير، متوحد، تجمعه اللغة والدين والأحلام والثروات التي بلا حد؟ إذن كيف يضيع بعض أهله هكذا في طرقات المدن البعيدة وفي المنافي وبلدان الهجرة ؟ كتب أمين معلوف روايته الرائعة والحارقة «التائهون» عن ضياع الحلم، والحب، والصداقة والرفقة والرفاق، كتب حكاية امتدت خيوطها على مدى صفحات الرواية التي تجاوزت الـ 500 صفحة، بنفس درامي معبأ بالشجن والأسى، حكاية الأصحاب الذي جمعتهم أحلى الأيام سنوات الشباب والجمال وأمان الزمن في لبنان سنوات الستينيات ومطلع السبعينيات قبل أن تغتال الحرب الأهلية كل شيء وتلتهم حتى ذكريات تلك الأماسي التي لطالما قضاها الأصحاب في شرفة منزل عتيق لأحدهم يطل على غابات وأضواء وتاريخ مدينة كانت حتى انفجار قنبلة الحرب في مأمن من كل شيء، وفجأة تبدد الأمان، وصار الأصحاب كل في طريق، أحدهم في أمريكا والآخر في باريس والثالث بقي في بيروت والرابع والخامس، تفرقت بهم الطرق ولم يجمعم إلا موت الصديق ولحظة تأبينه في احدى كنائس بيروت! منهل السراج أيضا تكتب في روايتها الشفافة «عصي الدمع» عن هذا المعنى، معنى الضياع في البدان البعيدة، معنى الوجع المستقر في أعماق النفس التي فقدت بسبب الحروب والدمار طمأنينتها وأمان الحياة وسط العائلة والبلدة القديمة وصفاء الوقت بصحبة أصدقاء الطفولة والمدرسة، «عصي الدمع» رواية عن التاريخ المحرم لمدينة حماة السورية، عبر جمع أطراف الحكايا، تمام كما جمع أمين معلوف في «التائهون» أطراف حكايا اصدقاء الستينيات، وصار يدونها باعتباره مؤرخا يؤرخ تاريخ مدينة من خلال سيرة الناس، في رواية منهل السراج تجمع الروائية أطراف الحكاية المتعددة لكل فرد، «مخلص» الذي يعيش في بريطانيا، و«أيمن» في السعودية، و«فدا» في استوكهولم، اضافة الى بشرى ولينا وغادة وسمر الذين بقوا في حلب وحماة، فتظهر في حكاياتهم وخياراتهم أوجاع نفوسهم وأعماقها الحقيقية. سيرة مدننا التي نتابع اليوم على الشاشات حرقها وقتلها، وتفجيرها، ومن ثم انتهاك خصوصيتها الإنسانية وتحولها إلى مجرد خبر عابر، يكون عاجلا تتزاحم عليه وكالات الأنباء للحظة ثم يصير عابرا في شريط الأخبار أسفل الشاشة في غضون ساعات، بينما الحقيقة أن ذاك الخبر او ذاك الانفجار أو القتل أو السيارة المفخخة أو الشاب عديم العقل الذي فخخ نفسه وفجر المكان بحزام ناسف، قد نسف في الحقيقة أمان عائلات وحياة أسر وولد في غمضة عين ضياعا حقيقيا لكثيرين سيجدون أنفسهم مضطرين لأن ييمموا وجههم صوب المنافي البعيدة بحثا عن أمان بديل . أيا أيها الضياع، الى متى ستظل قدرا مكتوبا على جبين هذا الرمل وهذه الجغرافيا، أيا أيها القتلة ألم تشبعوا من الدم بعد، عليكم لعنة الغربة الى يوم الدين! ayya-222@hotmail.com