المثقف هو ذلك الإنسان الذي ينتج الثقافة. وهو إذ ينتج الثقافة بتعدد أنواعها، فإنه يبذل جهداً مضنيا، وعملا فكريا دؤوبا يستغرق الوقت، ويستهلك الطاقة الجسدية والمادية. فشروط إنتاج الثقافة ليست شروطا فردية مثالية لا تلمس الواقع ولا تتكئ عليه ولا يحتاج صاحبها إلى المادة التي تسير حياة الأفراد وتتحكم فيها. ففي كل العصور، كان الكتاب والورق والقلم سلعة تباع بثمن نقدي لا لبس فيه ولا غموض. وفي هذا العصر لم تصبح هذه الأدوات أغلى فقط، بل أضيفت إليها حاجات أخرى متعددة. كوسائل الثقافة السمعية والبصرية والكومبيوتر والإنترنيت. وكلنا يعلم أن المثقف لا يحصل عليها تبرعاً أو مجاناً. وإذا كان المثقف موظفاً في مؤسسة خاصة أو عامة، فإن جزءاً هاماً من دخله يذهب إلى توفير مستلزمات هذه الثقافة وإنتاجها. وإذا لم يكن موظفاً رسمياً ويعتاش من إنتاجه الثقافي وحده، إما اصطفاء أو قسرا فالله وحده يعلم أي ضنك يعاني في واقع لا يعترف بالثقافة كإنتاج يعلو على إنتاج كرسي في مصنع. وفي واقع يفرض شروطاً للعيش لم تخطر على بال مثقف قبل ثلاثين عاماً على الأقل، لا يكفي لهاث العمر كله لإيفائها. إن المثقف المواطن لا ينتج الثقافة وهو معلق في فضاء الفراغ، بعيدا عن أشواك الأرض، وتروس الزمن. ولا ينتجها في ساعات الاستغراق في النوم اللذيذ الذي يعز مثله على المثقف ذي الحس اليقظ والقلق المضني. فكيف إذن والسؤال موجه إلى كل أجهزة الإعلام الخاصة والعامة، المقروءة والمسموعة والمرئية يجلس الإعلامي وراء مكتبه الوظيفي ويقرر استنطاق هذا المثقف حول استطلاع أو تحقيق، يملأ به صفحات الصحيفة، أو برنامج الإذاعة، أو محطات البث الفضائي، أو المحلي دون أن يدرك أن المثقف الذي أدلى بمعرفته، كان قد دفع ثمنها من عرقه وجهد فكره، وصحة بدنه، وزمن عمره. وهو بذلك قد قدم إنتاجاً ذا قيمة أدبية ومادية. فإذا كانت القيمة الأدبية يدفعها القارئ للمثقف، فإن القيمة المادية حق للمثقف على الجهاز الإعلامي الذي اشترى منه المعرفة ليبيعها بدوره إلى القارئ، والمستمع والمشاهد. أليس الإعلام وأدواته سلعة تباع وتشترى؟ هل يحصل المثقف المواطن على قنوات الثقافة كلها دون ثمن نقدي صرف؟ هل توزع الصحف على المثقفين مجانا؟ هل تبث الفضائيات والمحليات برامجها على الناس مجانا؟ ألا يدفع المثقف قيمة الأجهزة الموصلة للمعلومات والثقافة؟ ألا تقبض أجهزة الإعلام ثمنا باهظا على نشرها للإعلانات التي أصبحت الغاية والوسيلة؟ إذن أليست المعرفة كلها سوق بيع وشراء؟ فلماذا على المثقف المواطن تحديداً حين يعبئ صفحات الصحف بنتاجه الثقافي، وحين تجرى معه مقابلة صحفية أو على شاشات المحطات الفضائية، أو يحاضر في الندوات التي تنشط بها المؤسسات الرسمية والخاصة يكون متطوعاً ومجانياً، أي كبش فداء، لأنه مواطن فقط؟ هل تعتقد أجهزة الإعلام أنها بذلك تمن على المواطن بشهرة لم يكن ليستحقها لولا سعيها الكريم؟ وحين تستضيف أي مثقف من بلد آخر تجزي له العطاء وكل شروط الاستضافة؟ أم أنها تعتقد أن ثقافة المواطن أدنى في القيمة من ثقافة مواطني الدول الأخرى، كما عبر لي أكثر من مثقف من دول عربية وأجنبية، عن رأيهم المتدني في قيمة إبداع الخليجيين المترفين!