نكتب لنكتشف أنفسنا، نكتب لنقول للغيمة إن للكلمات قطرات تنثها سماء القلب، نكتب لنثبت للصحراء أن في القلوب ترباً أخصب من العراء، وأن الحب هو السنبلة التي لا تهزها الريح، نكتب لنثبت للناس الطيبين، أن الحُلُم نخلة الخيرين، وعطاؤها وسخاؤها ورخاؤها، وثراؤها يتساقط رطباً جنياً، نكتب لنصوغ النجوم قلائد وفرائد وقصائد على دفتر التاريخ. نكتب لنلون الموجة بألوان الزهاء والبهاء، والصفاء والانتماء، والنقاء والاستواء والاحتواء، نكتب ونسكب ونخصب، ونصخب، وننخب وندرب النفس على حب الحياة ونشذب الروح من عوائق وعلائق، ونهذب القلب ليبدو في الليل نجمة وفي النهار غيمة، وعلى طول الزمان والمكان قيمة وشيمة، نكتب لنفكر، ونفكر لنتذكر، ونتذكر لتبقى الذاكرة قماشة أنيقة رشيقة صديقة للبيئة، نكتب والهوى أشواق والعشاق حين يشتد الوطيس يكونون غصن الزيتون، يرفرف ويهفهف، ويعزف لحن الخلود والحياة لمن يضعون الحب شراعاً ويراعاً، نكتب لأننا من دون الكتابة تتوقف الرئتان عن الرنين، وتتكور الشمس ويسجر البحر وتميد الجبال، ويصبح البوح كعجل له خوار، والزمان عجلة عطباء بلا أطوار، نكتب لتسهر امرأة على التلاوة تهدهد طفلاً وتناغيه، لعلّه يصبح كائناً يداه جناحان وعيناه نجمتان، وقلبه يتسع الكون ولا يضجر. نكتب لوطن أقلامه نخيلات، تجدل ضفائرها، وتكحل بالفرح عيوناً في طرفها حور، ورموشها أهداب حرير، مغموسة بالدرر. نكتب بشغف المدنفين وَجْداً بتراب أصله من ترائب ونسله من صلب عشاق ما ملوا العطاء حتى آخر رفة جفن . . نكتب وأحلامنا طيور تنقر حبّات الأمل والقُبل كل القُبل لمقلٍ لمعتها دمعة تغسل الوجدان والأشجان، والمكان أبيض من غير سوء . . نكتب لتفيض وديان القلوب بالعذوبة، وترتع النفوس، في الخمائل والشمائل وتسعد السماء بما تمطره الأفئدة من وفاء. نكتب لأن الكتابة شجرة نحن الذين نضع الثمرات على أغصانها، ونحن الذين نلوِّن الأوراق بالأشواق. نكتب لأنّ الكتابة نجمة نحن الذين نعلِّق قلادتها في نحر السماء. نكتب لنجهض سعي الليل لإشعال الظلام ومحاولات الحقد في إطفاء أجمل الأحلام. نكتب لنمسك بخلاصنا من النفس الأمارة، نكتب لأنّ للكتابة أصابع كلما امتدت مدّت أعناقاً للآخر، هو أولوية الأشواق والأحداق. نكتب ونسهب في الشهيق، فيصفو الصدر من كربون، وأفيون الحياة. نكتب لإنسانية، لا تقضها ملِة أو نحلة، ولا تغضها علةٍ أو زلة، ولا تكظها زلزلة ولا بلبلة، ولا تخضها خرائب ولا مذلة، نكتب لأجل إنسانية معافاة مشافاة من إرهاب واقتضاب، واغتصاب واكتئاب واضطراب. واحتراب واستلاب، وانتهاب، وعذاب . . نكتب لأجل إنسانية كونها خيمة تضيؤها نجمة، وتدثرها غيمة، وتحمي عمادها وسدادها شيمة وقيمة . . نكتب لإنسانية، الحب ناموسها وقاموسها، ونبراسها وأساسها، وإحساسها.