بعدما تحطمت كل الأيديولوجيات الوطنية والدينية التي حطت رحالها على أرض الديانات الكبرى، ثم رحلت وترهلت وترملت وتلاشت، ونال ما نالت من بخس وبؤس، أبناء التاريخ والجغرافيا، وطفرت وطغت واستبدت، الطائفية والاثنية وأوهام الناعقين والناهقين، أصبحنا أمام أزمة وجود مأزق التكوين.. ولم يزل الطوفان ينثر زبده، ورعده، لأن المحاكاة أصبحت عسيرة، والذود عن الحقيقة أمر من الأمور المبتسرة.. كنا نعاني من أزمات الحدود حيث الكبير يقضم من جسد الصغير، ويتورم بفاحشة الجشع والطمع، واليوم نواجه الوجود المظلم لأن أصحاب النفوس المريضة تفشوا وانتشروا، ورفعوا سكاكين البطش والابتذال، وعاثوا فسادا وحاثوا مساعر الهدم والتدمير، لغاية في النفوس وهوس في الرؤوس.. اليوم، إن لم يخرج من بين ظهرانينا من يوقف السيل والويل، ويضيء الليل بمصابيح التنوير، والبداية من الأسرة فالمدرسة، ثم مناطق أخرى لها دور الكفاية في تحقيق الآمال إن وجدت من يعتني بشأنها ويؤسسها على نظم الوعي، والثقافة التصالحية مع النفس أولاً ثم مع الآخر.. فلا يعقل أن تعم العقلية المأزومة، بفكر التهويش والتهميش، في بقعة من الأرض، كرّمها الله بنزول الوحي وحضور الديانات السماوية الكبرى، لا يعقل أبداً أن يستولي العقل المثقوب بمسامير صوته على مصير أوطان ومستقبل أجيال، ونحن ما زلنا نفكر فقط كيف نضرب معاقل داعش ومن والاها.. فوجود هذه المنطقة ومناطق العالم أجمع مرهون بوعي الجميع بأهمية القبض على نصل الحقيقة، والسير معاً كتفاً بكتف، لقطع دابر الفكرة الجهنمية، التي تأسست على إشاعة الفوضى، وسيطرة العقل المغموس بالدم والسقم. نعم هي أزمة وجود ولا مكان لإدمان الخربشة على سبورة الوعي الإنساني، والخلاص الحقيقي يجب أن يعتمد على سلوك الهم المشترك، والقاسم الذي يضع الجميع في بوتقة واحدة، لأن من يقتل مسلماً شيعياً أو سنياً، مسيحياً، بوذياً، فكأنما قتل الإنسانية، لأن الإنسان هو إنسان في أي مكان، والذين يحاولون الفرز، يعرفون من أين تؤكل الكتف، يعرفون كيف ينصبون شراك الغدر، فعندما تتخلى المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي عن دورها الطليعي، تبقى الدائرة مفتوحة، على آخرها كي يدخل في أرجائها الهواء الفاسد، وتعم الفوضى لتشمل العقل قبل كل شيء.. فالقاعدة وداعش وغيرهما من قواعد التفتيت والتشتيت، ليست إلا معاول الغرض منها محو الوجود وإعادة الكون البشري إلى غابات الجمع والالتقاط واستخدام الشجر الأجرد، مأوى ومأكل لجياع الطبيعة.. ما تسفر عنه تصرفات المجاميع المتطرفة، يؤكد أن غض الطرف وصرف النظر عن سلوكيات من قبل بعض الدول، وتزحلقها على جليد الأجندات الغامضة، ما يمكن اعتباره عود على بدء داحس والغبراء، واستمرار الأمر، لتصبح السودان وليبيا واليمن والعراق وسوريا، بلدان ما قبل التاريخ، وكأن بابل لم تنجب حمورابي ولا نبوخذ نصر، وكأن الحلم العربي مجرد أضغاث أحلام، تسرب معها الوعي، وغرقت سفينة نوح عند الجودى ليفني البشر البشر، وتغشى الناس غاشية القتل من أجل القتل، والسكين لا تشرح البرتقال ليأكل الأطفال وإنما لتبطش بأجساد المظلومين على أيدي من ساورهم الظن أنهم أنبياء، فإذا بأفعالهم تؤكد وبجدارة أنهم أدعياء بامتياز، ووجودهم ينفي وجود الآخرين.