أن تقيم ولو ليومين في مدينة تعبق بالرومانسية والتاريخ، تطل على أجمل الأنهار وتتوسد أكثر أراضي أوروبا اخضرارا، يطل التاريخ من أزقتها وكنائسها ويشرف الإمبراطور شارلمان بهيبته وجيوشه وقصره من أعلى روابيها، ذلك يعني أنك تقيم في مدينة هايدلبيرج، المدينة التي ألهمت الفلاسفة والأدباء والشعراء، واستقطبت وما زالت آلاف السياح من أنحاء العالم يوميا، من دون أن تنسى الاهتمام بالعلم والبحث والأكاديمية فهي تضم واحدة من أكثر جامعات ألمانيا عراقة ورابع جامعات أوروبا بحسب المعايير العلمية المتقدمة، رائع أن تمر بمدينة تعبق بهذا الألق وأن تمشي مرتاحا تتنفس بعمق وارتياح في أزقتها وتجلس في مطاعمها ومقاهيها من دون أن ينتابك أي شعور بالضيق أو التبرم ! وحدها الصدفة قادتني إلى هذه المدينة، لكنها كانت الصدفة الأحلى، ونادرة هي المدن التي تقع في هواها بمجرد أن تطالع صورها أو تقرأ عنها في النشرات السياحية والدعائية، خاصة إذا كان مزاجك شرقيا أو عربيا صرفيا لا يميل كثيرا للسياحة على طريقة الأوروبيين أو حتى الشرقيين التي ينقبون البلاد التي يزورونها بحثا عن كل معلم وقصر وأثر ورمز ومعلومة، لكن هذه المدينة تسجل قدرة شفيفة على اختراق الروح بحيث يصبح السير تحت سمائها متعة حقيقية، تفاخر به إذ تقوا بينك وبين نفسك يا الله أنا اليوم أسير مبتهجا تحت سماء هايدلبيرج ! ما زاد بهجة الذهاب تلى هناك كان مغامرة السكن في قصر قديم جدا يعود تاريخ بنائه لعام 1592، وهو يقابل كنيسة الروح القدس مباشرة التي يعود تاريخها للقرن الثالث عشر، وهما المبنيان الوحيدان اللذان نجيا من حريق ضخم التهم المدينة في تلك القرون الغابرة، وظل ذلك القصر يرمم باستمرار بعد أن توارثته أجيال مختلفة، وها هو اليوم يحتفظ بطرازه المعماري العائد للقرن السادس عشر وبكل التفاصيل الداخلية للقصر، بعد أن تحول إلى فندق تديره عائلة بشكل حميم وودود جدا، يخلو الفندق من بذخ وأبهة فنادق الدرجة الأولى، فلا زجاج صقيلا ولا رخام إيطاليا لامعا ولا أسرة فخمة ولكن روح التاريخ تمنح الحجرات والممرات وسلم الفندق وسطوحه القرميدية ونوافذه الصغيرة وستائر الدانتيلا البيضاء روحا مختلفة تحلق بك إلى عصور غائرة في الزمن ! بهو الفندق أو قاعة الطعام تمتلئ بصور مرسومة على يد رسامي تلك الحقبة الزمنية لأفراد العائلة التي شيدت القصر وملكته لفترات من الزمن، تتأمل وجوههم وتفاصيل ملابسهم، مجوهراتهم، النياشين التي تزين صدورهم فيصيبك شجن حقيقي بعدمية هذه الحياة وبلا منطقية الغياب الذي يسحب الناس إلى ثقوب الزمن فيختفون كأن حياة لم تكن وعمرا لم يقض وشبابا وتاريخا ونتاجا وحكايات نجاح وعشق و، و، . . . أين يذهب ذلك كله، يفارق إلى حيث لا يدري أحد، تلك السيرورة القدرية الماضية في الخلق بلا تغيير حتى يشاء الله ! كان قضاء وقت في المكان كفيلا بلحظات تأمل عميقة، باستحضار أولئك الأشخاص، بإدارة حوارات ونقاشات ومساءلات، فإذا خرجت، وجدت أهالي المدينة لطيفين جدا لأنهم اعتادوا استضافة ملايين الناس من كل الثقافات طيلة العام، انهم من اكثر الأوروبيين ترحابا فقد تخلصوا من غلظة الألمان وبرودة الأوروبيين ولهذا السبب تمتلك المدينة روحها الخفيفة التي تقبض عليك منذ النظرة الأولى !