السفر يعني الحركة والتنقل والاكتشاف والبهجة، يعني المعرفة والغوص في التفاصيل والانتباه إلى أمور ما كنا نعيرها بالاً، السفر يعني المطارات والمرافئ والموانئ والطائرات والسفن والسيارات، يعني الأصحاب والأصدقاء والرفقاء، ويعني الحنين لذواتنا وحقيقتنا، يعني العودة للبساطة والتيقن من الكثير من الحقائق، السفر عكس الروتين وهو يكسر الروتين، وتدفعك أصغر المواقف التي تحصل لك إلى الضحك وبصوت عال، تشعر بأن ضحكك مختلف وابتساماتك أكثر تلقائية وحتى انفعالاتك وغضبك وكرمك وحنينك أكثر صدقاً، تشعر بأنك شخص حقيقي، لا تحتاج لأن تتأنق لأن هناك من سيراك، ولا تتكلف لأن هناك من يلاحظك ولا تضبط وقع حركتك خوفاً من القيل والقال، أنت في السفر مع نفسك ومع أقرب المقربين، يعني أنت على سجيتك ولكن وفق حدود الضوابط التي تحكمك وتحكم كل الحركة التي حولك! إذا تحدثت عن المدن تظل مدينتي هي الأغلى وهي التي أحن إليها مهما كانت المدن الأخرى أجمل وأحلى وأكثر رونقاً واخضراراً، يبقى نبضي هناك وطفولتي وحياتي وتذكاراتي، وصور عائلتي وقبر أبي وجدي وجدتي، يبقى التراب الذي لامسته أقدامي حين تعلمت الخطو أول مرة، مدينتي هي التي علمتني المشي وشدتني الى الأرض والطين لتعلمني معنى بشريتي وهي التي منحتني سماء أظلتني وعلمتني كيف أرسم أحلامي وكيف ألونها وكيف أطير خلفها حتى تكون واقعاً، علمتني أن إنسانيتي لا تكتمل إلا بتلك الأحلام وبذلك الإصرار على الارتفاع، وما بعد مدينتي تقع بقية المدن في المنطقة ما بين الحلم والحقيقة، ما بين الشوق والخيال والتذكارات، ما بين قطار يجيء وآخر يمضي! علمتني بيروت معنى أن أحب مدينة تسكن على فوهة بركان، وأن أجعل لي على رأس هذا البركان أصدقاء وأحباباً، يسرقني الحنين إليهم دائماً فلا أكف عن الرغبة في الذهاب الى هناك، لأن بيروت مدينة لا تشبه أي مدينة وأصحابي هناك لا يشبهون أي أصحاب تماماً ككل المدن لا توجد مدينة تشبه أخرى ولا صديق يشبه آخر، حتى وإن منحناهم نفس المحبة ونفس الوفاء، وحين تغلبني السياسة والجغرافيا وقيامة الإرهاب وتصبح الطرق الى بيروت بحكم الإغلاق يظل الحلم بوجود منفذ ومخرج مهما طال الزمن، فبيروت تحديداً مدينة تتفوق على نفسها في امتلاك القدرة على الحياة واختراعها إن لم تكن، تسهر كأنها تسهر للمرة الأخيرة وتحارب كأنها حربها الأخيرة وتتأزم الأمور فيها كأنه لا أزمات بعد ذلك، ثم تمضي الحياة كأن شيئاً لم يكن! علمتني مدن الريف الأوروبي كيف يخترع الإنسان معجزة تقدمه وتطوره وتمدنه في الريف! كيف يمكن للريف أن يغلب المدينة، أن يكون أجمل منها، أحلى وأنظف وأكثر ترتيباً وألقاً، وجدت المدن الصغيرة تشقها الأنهار فتحولها آيات للجمال ونجوماً تبرق على تخوم الحقول والغابات، سرت بسيارتي آلاف الكيلومترات، فأحسست مدى أهمية الأمن والأمان والطمأنينة حين يكون الإنسان إنساناً محكوماً بإنسانيته قبل القانون وقبل كل شيء آخر، لا أحد يعترض طريقك، لا أحد يصرخ في وجهك إذا ارتكبت خطأ دون قصد في الطريق، إذا استخدمت طريقاً خطأ أو إشارة في غير مكانها، فأنت غريب في نهاية الأمر وهناك قد يستغربون وجودك لكنهم يمدون يدهم لمساعدتك قدر استطاعتهم وهم يبتسمون، فقط لا تنس أن تكون مهذباً معهم ولا تنس أن تقول: شكراً! يا إلهي كم تبدو المدن على حواف الأنهار شيئاً كالخيال، أو كالحلم، مدن أكبر من الجمال بكثير وأقرب الى الصلاة والابتهال!