لماذا يحتدم الصراع بين بني البشر؟ سؤال يتوغل في عمق الذاكرة، فعندما شب حريق التضاد بين أثينا المتفلسفة وروما ذات القانون والعمران، تضخمت الأنا واستطاعت روما أن تستولي على عرش الفلاسفة في أثينا، وتطيح أهم معلم من معالم الفكر الإنساني على مر العصور، فذبلت أشجار الفلسفة واختفى سقراط وأفلاطون وأرسطو من أروقة أثينا، واعتلت المنابر خطباً رومانية مناهضة للفكر الماورائي اليوناني، وبهذا التعسف اعتقد الرومان أنهم قضوا على أهم قلعة سيطرت على الفكر الإنساني، وباتوا على وشك التمدد والاستيلاء على وجدان الناس، ولكن بعد حين اكتشف الرومان أنهم وقعوا في فخ الخدعة البصرية، وأنهم أخذوا النفس الأمارة باتجاه التورم والتبرم والتخرم بمشاعر واهية لا أساس لها في الواقع، اكتشفوا أن الحياة لا تستقيم بلون واحد، وكما هو الليل والنهار، هناك المادة والروح، وبالتالي لابد من العودة إلى أدراج الرياح الغاربة، ولكن بعد فوات الأوان. . ففي التسلط غلط وشطط ولغط، وفي التزمت ضياع للبوصلة الفكرية وتيه للمشاع، ويستولي التخلف على التقدم ويبسط الماضي نفوذه على الحاضر، هذا هو ما يحصل اليوم، بعض الجماعات والفئات والطوائف تفكر بعقلية ماضوية وتخسف وتقصف الحياة بنيران الحقد والكراهية والأنانية، وتحيل العشب الأخضر إلى حشائش عجفاء وجفاء لا حياة فيها. اليوم جماعات تكبر وتهلل وهي تهوي بسيوف الحقد على رقاب الأبرياء، فقط لأنهم يختلفون معهم في المِلة، اليوم جماعات ترفع المصاحف بيد وباليد الأخرى تقبض على سكاكين الذبح، وما بين المصاحف والسكاكين تكمن قلوب ملأى بالسواد وحثالة أفكار نبتت كالطحالب والطفيليات، وباتت تؤسس لواقع ثقافي مزرٍ ومخزٍ، اليوم أصبح الدين وسيلة لتحقيق غايات ونوايا أطاحت الجمال الإنساني وحولت حقوله الزاهية إلى مستنقعات تتكاثر فيها الأوبئة والمخلوقات المتوحشة. . اليوم استطاعت فئة من الناس أن تستخدم الدين سلاحاً فتاكاً وشعاراً تتباهى من خلاله بالقتل وسفك الدماء وهدر الخيرات البشرية، وتدمير البنى التحتية لدول، هذه الفئات استعانت بقوى الشر التي تقدم لها العون اللوجستي وتمهد لها طريق العدوان على الخير واغتصاب الحقيقة والاستيلاء على مشاعر القصر وتجنيدهم، كأفخاخ تتفجر في وجه الأحلام المزدهرة لتحيلها إلى أضغاث وكوابيس مرعبة تقتلع القلوب من الصدور وتجتث الفرح من النفوس. . اليوم يوم الكشف عن الحقيقة التي لابد لها أن تزيح اللثام عن الأفواه لينطق الناس ما تمليه عليهم ضمائرهم حتى يتم انقشاع الغيمة وزوال الغمة. . اليوم يوم الفكرة المضادة التي تفتح أشرعة السفر إلى آفاق مسفرة بأقمار الحياة، مبهرة بأضواء التصالح مع النفس وقبول الآخر لطرف مكمل لمتوازي الأضلاع.