لم أكن وفيا للصحراء وأنا الذي أستند إليها وأستمد منها صور الحياة المختلفة، ولها طيف العمر الذي بدأ منذ الصغر يخطو على لون الزعفران، ويطبع أحلامه وعشقه.. والآن، بعد حالة التوهج العمري الذي عبر الصحراء نحو البحر وسكن بجواره، وحاورت خلاله أمواجه على امتداد الساحل، كما لو قبيلة من الأفكار نفذت من باب الزرقة، وسطرت ألواناً زاهية، رحلت خلسة الى الصحراء، من دون أن يعلم جاري البحر، ومضيت إليها برائحة المدن وعبق الحنين وخيال العاشق. خلعت من رأسي ناطحات للسحب مضيئة، وضاحكة، كان صخبها مستفزا لكل السطور ولكل الطيور العابرة. عدت الى الصحراء أقلب في الذاكرة ما أشاء، لأنها الحلم والحرية، والطريق وحده يعبد المسار إليها.. ولها الفناء الشاسع واختلاجات المدى؛ فمن شرفة الكثبان الرملية ترى منطقة «بداير» التي تحتضن الأصوات المتدفقة من مدن أفلتت زوارها الذين يبحثون عن الاطمئنان والراحة النفسية... ترى الصبية الصغار بدراجتهم ينسجون أحلامهم على الكثبان الرملية أو أسرارهم تتجدد... وكذلك هواياتهم تتمدد، بعد أن جمدتها عوائق الوقت والمدنية. لكنها الصحراء، معتقة برائحة غريبة من خلالها يستنشق المرء رائحة الحب والهواء الطلق، يشعر بأن الضوء المتهادي ما بين الكثبان الرملية دعوة للنفس كي تولد من جديد. لاحظت بأن البشر لا يسعون الى المجازفة؛ فهم أقرب الى ساحل البحر من التدرج نحو أعماق تبدو غامضة نوعا ما، وكذلك هم في الصحراء، يجلسون على حافة الطريق، يسترسلون قليلاً ويعودن أدراجهم، يخشون من المتاهة والصمت المتدثر بالحياة الصحراوية. بالطبع ليست الصحراء كلها متدفقة بالينابيع المائية لكن التربة كانت مبتلة من جراء المطر، والعشب بدأ يشق نحو الضوء مساره الجميل ذو الدلالة التي تجسد المكان والظل في الصحراء الشاسعة، كما هي الأشجار تظل عتبات للعابرين الرمال في اتجاه الدروب المنسية.. فأهم ما في الصحراء لغزها الدفين من وعود وعهود وجحود وصبر يجلد اللحظات، ولا ينسى المرء بأن للصحراء قيما متوارثة وثمينة ومتأصلة في فنون الحياة وقصصها. الينابيع ربما تجف.. لكن ليس الصحراء بذاكرتها الممتدة لتعانق الزمن؛ فذات مرة كنت بقرب المنامة أرافق والدي وعائلتي وتاه بنا الطريق في صحراء بمنطقة المنامة بالشارقة، فاستوقف والدي رجلاً باكستانياً وسأله عن الطريق والمسار الصحيح، فأجابه بسؤال: هل انت من يسأل وأنت العارف بالصحراء ومساراتها، فقال له والدي: من انت؟ فأجابه: أنا الطباخ الذي كان يعمل بالمعسكر البريطاني الذي كنت تعمل فيه. وثمة موقف آخر: حين توقفت بمنطقة بداير الأسبوع المنصرم، وتحديدا بمطبخ “خالد حرية” دخل رجل اوكراني يسأل: السلام عليكم، هل لديكم برياني أو مجبوس او مندي؟ وهل لديكم «مرق صالونة»؟ وأبهرني بلغته العربية البدوية ومعرفته بالأكلات وأنواعها!. كل ذلك يؤكد أن الصحراء عالم آخر لا ينبغي مسحه تماما من ميولنا ومساراتنا، وللصحراء معرفة خاصة كما للبحر طقوس تجسد الحياة وكيفية التعايش معه.