في معظم أقطارنا العربية كانت طوابير المواطنين أمام أمكنة مختلفة مشهدا مألوفا، طوابير أمام الجمعيات التعاونية للفوز ببعض قطع الدجاج أو اللحم لغداء أو عشاء العائلة، طوابير أمام المخابز للحصول على أرغفة خبز تكفي قوتا للعيال ذاك اليوم، طوابير أمام السفارات الأجنبية لملامسة الأمل البعيد بالحصول على تأشيرة هجرة أو عمل أو سفر بلا عودة لدول أوروبا، وطوابير... الطابور هو الطابور في نهاية الأمر، جموع من المواطنين المتعبين، الكادحين والمتعثرين بأحلامهم ومطالبهم وأحلام أطفالهم، وما بين طابور الخبز وطابور اللحم والإسكان كان طابور الهجرة وتأشيرة العمل هو المخرج من كل الشقاء الذي تسببه الطوابير الأخرى، التي ظلت راشحة دوما بالصراخ والزعيق والزحام والتشابك بالأيدي والكثير من السباب والشتائم، وبقيت الأنظمة العربية الديكتاتورية كشبح يظلل تلك المساحات التي تقف فيها الطوابير ويحرسها بالأمن والعسكر، كانت الأنظمة هي التي استهلكت أرواح مواطنيها وأعطبت أخلاقهم ونفسياتهم وقتلت أحلامهم وكرامتهم في تلك الطوابير! ذاك زمان واليوم زمان مختلف، اليوم يقف المواطن العربي في طوابير مختلفة شكلا ومضمونا، ما يعني أن شعوبنا العربية نجحت أخيرا في أن “تعدل” اعوجاج الطابور، وتعيد الاعتبار لمبدأه وشكله وعلاقتها به، فالطابور في نهاية الأمر وقوف اختياري مقنن يضمن العدالة للجميع في الحصول على خدمة ما، دون تجاوز ودون تبرم، نحن نقف في الطابور باختيارنا أمام محاسب الجمعية وأمام شباك تذاكر السينما وأمام الصيدلية، وفي محطات القطارات، وفي البنك والسفارة الأجنبية للحصول على تأشيرة الزيارة...، ليس في الأمر أي ضرر أو استياء، الكل يقف والكل يحصل على الخدمة نفسها ومن ثم يغادر بذات الطريقة، فالطابور ليس سوى آلية من آليات ابتدعها الإنسان، لكن حينما دخلت بعض الأنظمة على الخط حولتها إلى آلية مقيتة لامتهان كرامته من أجل الحصول على “فرخة” أو رغيف خبز أو تأشيرة فرار!! منذ عدة أيام ونحن نشهد طوابير مختلفة للمصريين في الخارج أمام سفارة بلدهم للإدلاء بأصواتهم في عملية انتخاب الرئيس القادم لمصر، طوابير رغم بعض السلبيات في تقديم الخدمات، ورغم حرارة الطقس عندنا في الإمارات، ورغم الانشغالات والتعب وبعد المسافة بين الإمارات، إلا أن الرجل المصري، والمرأة المصرية، والشيخ والعجوز، والمريض والشخص الذي ظل عمره كله غير مبال وغير مصدق وغير معني بالانتخابات، الحامل والمرضع والموظف والطفل، كلهم وقفوا في طوابير طويلة جدا للإدلاء بأصواتهم، ولا يهم لمن سيدلون (للسيسي أم لحمدين صباحي) المهم أنهم ذهبوا ووقفوا واحتملوا ليس للحصول على رغيف عيش أو فرخة أو كيلو لحمة، ولكن للحصول على وطن، للحصول على مصر أخرى! رأيت طوابير طويلة جدا من المصريين عبر نشرات الأخبار وعبر مواقع التواصل وعبر مقاطع الفيديو التي حملها المصريون على الشبكة، إنها تظاهرة سياسية سلمية ديمقراطية بامتياز، وواعية جدا لانتخاب الرئيس الأجدر من وجهة نظر المصريين لحكم مصر في المرحلة المقبلة، هؤلاء المصريون الذي اجترحوا معجزة ثورتين في زمن قياسي وقلبوا نظامين دفعة واحدة، تعلموا من زمنهم الصبر والقدرة على تخليق الحلم “عشان بكره يكون أحلى” و”عشان الولاد تلاقى بلد آمن تعيش فيه” و”عشان مصر تستاهل” كما يقولون دوما. إن المصريين الذين وقفوا في تلك الطوابير ولأول مرة دون أن يتأففوا أو يتصايحوا أو يلعنوا كل شيء كانوا في الحقيقة ينتخبون الخلاص وليس المخلص والأمان وليس السيسي وحمدين، ينتخبون ‘مصر’ وليس الرئيس، الدولة وليس الشخص، فقط لينتبه الرئيس القادم أن المصريين عرفوا شروط المعادلة وأن نظرية “أنا الرئيس.. أنا الدولة” انتهى زمنها في التاريخ المصري. ayya-222@hotmail.com