يسكنُ الكلام الصمت.. ليلاً عندما يهجع النابحون إلى وسائدهم في سرير الفراغ، وتغرب شمس النميمة، وينام فرسانها المرضى، ويغلق الثرثارون أفواههم بعد معارك مع الحشو. في تلك الساعة، حين يرتاح الوجود من هؤلاء، تولد السكينة على شكل نور صغير، ثم يكبر هذا النور متغذياً على الصمت العظيم في الكون، ويسري في الكائنات نسيم الوداعة. عندئذ يجلس الحكيمُ إلى ركنه في التأمل، ويستل الشاعرُ قلمه ليخط سحراً ناصعاً على ورق الجمود، وتطل عاشقة القمر من شباكها لتسمع حكايات النجوم عن بطل أسطوري يجوب الجهات موزعاً رسائل الحب على القلوب المشغوفة بالجمال، كأنما العالم وردي وحلم، وكأن عملة الحياة لها وجهان متعاندان ضد بعضهما. والإنسان إنما يختار بالوعي أن ينتمي للمعنى العميق والغائر في أصل الأشياء، أو يكتفي بالمرور العبثي على سطحها من غير أن يدرك سبباً لوجوده. هذا يسيرُ الى حتفه عابراً بلا أثرٍ كأنه نكرة، وذاك يختار أن يحفر في الصخر والرمل والماء، مدوناً سيرة قلبه وعقله على كل شبر يمر فيه. تسكن الكلمةُ الكتاب.. كل يوم، تخرج الكلمات من بيوتها في القواميس لتجوب أنهار المعنى، تشق مجرى جديدا في العقول اليابسة، وتروي بزلالها الصحاري الجرداء، فتحيلها درباً للباحثين عن سر الحياة. والكلمات تلعب بالبشر كما تشاء، كل يوم، تخرج الكلمات إلى الوجود بفستان جديد فيحتار فيها الجُهّال. وقد يفسّرها الوحش بأنها ملكهُ وعروسها فيقتل كل من يخالفه في تفسير معناها. وقد يأتي المرائي فيصبغ شعرها، ويعكس نصف حروفها ليوهم الناس بأن الحقيقة هي ما يُرى منعكساً في المرايا، ولكن المرايا تغمض عيونها في الليل، وتصير مجرد جدار، وقد تنكسر برمية حجر. ولذلك لا يدوم الرياء حتى لو ظن صاحبه أنه ينتصر، وسرعان ما تظهر الكلمات من جديد بثوبها الأصلي لتكشف عُريه، واللعب بالكلمات أقسى من اللعب بالنار، ووحدها العيون المدربة تعرفها حتى لو تلونت بألف ثوب، والشاعرُ الذي يجرها من ثيابها ليزوجها كل يوم بمعنى جديد، هو وحده من يعرف سرها. تسكن الذكريات في الماضي.. لكنها عند النبيه زادُه اليومي، بها يغذي عزيمة القفز ليتجاوز عثرة السنين. النار التي لسعته يوماً، يعود ليحملها شعلة في عتمة الطريق. والطين الذي أغرق قدميه في الوحل، يتخذه صخراً لبناء الجسور، وطعنة الغدر من الأقرباء في الخاصرة، هي درسهُ الأول في ضرورة الدوران عند اشتداد المحنة كي لا نقع حين تصفع الريح أشرعتنا. يفرش الخائفون مليون كلمة (لا) وأنتَ بعدُ في أول الدرب، لكنك حين تمضي في هيامك، تسمع من يناديك من بعيد بكلمة (نعم)، وتصير الحياة في كل لحظة موتاً لذكرى ما كنت تخشاه، وميلاداً لما يغمر قلبك وما يفيض منه. أسكنُ في عيونك طائراً عشه المدى ريشي رموشكِ وقوس الزمان قصير. akhozam@yahoo.com