في رواية «أيام زائدة» لحسن داوود، يجلس الإنسان الذي تخطى التسعين يعدُّ الأيام، يجلس مع ذكرياته، يقضي الوقت غالباً ممدداً في سريره، ينهض أحياناً ليتمشى، ليسمع صوت وقع قدميه على الأرض، ليكسر الصمت. يزوره الأولاد من وقت إلى آخر، يقفون على الباب، مستعجلين دوماً، لديهم مشاغل، يقومون بالواجب تجاه الوالد المسن الذي تخطى التسعين. في السبعين كان قد وزع أرضه وأمواله على أبنائه لأنه صار مسناً بما يكفي ليستريح باقي أيامه، هكذا قالوا له، في الثمانين كان لا زال يشعر بالقوة ليذهب إلى حقله، لكنه ترك عمله لأن هذا هو المتوقع منه، فالمجتمع يقول إنه من الطبيعي أن يستريح الإنسان بعد الستين، الرجل عاش لبعد التسعين. في زياراتهم القصيرة له يتجادل أبناؤه حول عمره بالضبط هل هو ثلاث وتسعون أو سبع وتسعون، هذا موضوعهم الأثير. أبناؤه يأتون ويروحون، قد يظل أحدهم واقفاً على الباب استعداداً للخروج، يحاول أن يستبقيهم بسؤالهم عن أي شيء، لا يريدون منه أن يقول أي شيء غير أنه بخير، يريد أن يكلمهم عن البرد، ووحشة الليل، والوحدة، لكنهم لا يحبون هذا الكلام، يقولون له: «يا رجل قل الحمد لله على كل شيء، ولا تخف من الموت» يهيئونه للموت، يظنون لأنه كبير جداً لا ينبغي أن يخاف من الموت. في السبعين كان لا زال يشعر بأنه قادر على الحياة، لكن المنظومة المجتمعية كانت تقرر عليه أن يتقاعد، ويجلس على مصطبة بيته يعدُّ الأيام. ها هو يتخطى التسعين، ولم يمت بعد، يفكر في كل الأشياء التي كان يمكن أن يفعلها طوال السنين الفائتة، لكن انتظار الموت يجعله يترك حتى علبة السكر دبقة، لا داعي لغسلها، سيموت غداً أو بعد غد، وسينظفون البيت كله. والرجل لا يموت، يظل حياً، جالساً في بيت تنقصه النظافة، والدفء والحياة. أعرف أشخاصاً جلسوا على مصطبة البيت يعدُّون الأيام بعد أن تجاوزوا الثلاثين، في الأربعين كانوا يفصِّلون أكفانهم. أخذتني من يدي إحداهن، قالت انظري هذا كفني، وهذه وصيتي، أضعها هنا، حين أموت تعرفين أين تجدينها. سألتها هل هي مريضة؟ قالت لا، صحتها جيدة، لكن الاستعداد واجب. لم تكن قد تخطَّت الثلاثين. أتساءل ماذا عن الاستعداد للحياة؟ بهذه العقلية ألا تكون الحياة منذ اليوم الأول مجرد أيام زائدة؟