يدخل الشاعر جنة الكتب ليبحر مذهولا بين صفحاتها، ملتهماً زاد العقول التي عرق أصحابها وهم يحفرون على البياض سيرة الدهر كله، حين وُلد القلمُ يوماً وكان وحيداً فكتب كلمة (الورقة)، وعليها بعد ذلك وُلدت الحياة. كل كلمة يخطها قلم الوجود تصير نبعاً للمعاني التي تتوالد من تكرارها. وكل حرفٍ يصير عرساً حين يلتقي بحرف جديد. ومن الكلمة المكتوبة، تتناسل الحقيقة ويتفجر نبع السؤال. ومن الكلمة المكتوبة، يفيض ماء الشعر ليروي شجر الجنون. والشاعرُ يرضع من كتب الحياة ما يجعله سيداً بجناحين عظيمين في رحابة الخيال. هذه القصائد التي كأنها كتبت بالسكين، هي صوت قلوبٍ عذبها الجمال. وهذه النصوص التي كأنها حُفرت على الجدران بأظافر اليد، هي نطق شعراء ظن القساةُ أنهم يخرسونهم بالعزلة، غير مدركين أن الكلمة لا تموت حتى لو كمموها، وأن الحرف يظل ينبض داخلها ولابد أن تعود لها الحياة. وما من شاعر سرى في الأرض إلا ليكتب عن شواردها، سارحاً في هيام أبدي كأنه يطير، والناسُ يظنون كلماته عبثاً وحلماً لا يصير. يدخل الفيلسوف جنّة الكتب حذراً خائفاً. ذلك أنه يدرك خطر الوقوع في شرك الكلمات ولغزها المحيّر. وحين يمد رجله اليمنى تظهر له كلمة (الحرية) وهي تتراقص مثل امرأة لعوب لا ينالها أحد. وعندما يمد رجله اليسرى يجد نفسه وسط دائرة من مرايا تتقلب في معاني متضادة. اللون الأسود الذي مدحوه في الليل قد يصير عدواً في دخان الحرب. والشجرة التي نظنها أماً في الربيع، قد تتركنا عراة بلا ظلال حين ترمي أوراقها في خريف غامض. والفيلسوف قد يكون أول من يغرق في بحر الكتب، لكنه أول من يخرج ناجياً من الحيرة. وكم من بشرٍ ماتوا بين ثنايا كتاب لأنهم لم يستطيعوا الخروج منه، وكم من عاقلٍ دخل في كتاب وخرج منه مجنوناً يلطم خديه. المرأة التي هجرها فارس الحلم ولم يعبر مرة أخرى تحت شباكها، تعود لتجده نائماً في الروايات وقد تلطخت روحه بالحنين. والطفلة التي كبرت من غير أن ترى أباها، تعود لتلتقيه أخيراً في كتب السيرة واقفاً يلوّح لها في طابور العظماء. كأنما الكتب حياةٌ لكمال الحياة. وكأنما أوراقها صارت مدناً وبيوتاً نعبر فيها وربما نكون من الساكنين. يخرج الجاهل من جنة الكتب مرفوساً وفارغ اليدين والرأس. كلما اقترب ليلمس غلاف كتاب لسعته ناره وأعماه نوره. وليس غريباً أن يكون في الناس من يكره الكتاب لأنه يكره الحقيقة ويزعجه انبعاث الجمال. وليس من الهجنة أن يأتي الجهلة بسيوفهم المسلولة لقطع عنق الكلمة، ذلك لأن صوتاً هامساً لكلمة (الحب) قد يرنّ زمناً في فراغهم وهم يسمعونه دوياً لا يطاق. حبيبتي.. تعالي نسكن الورقة بيتاً بلا باب نعبر هذا الوجود من كتابٍ لكتاب. akhozam@yahoo.com