كان الضحى مشرقاً وكنا ثلاثة، صديقتي وابني وأنا. وكان نور الله رفقتنا، وحولنا أفقٌ يمتد حتى مطلق الأمل. الرمل يعشق ثغر الموج. والبحر أسلس موجه من رهبة الماء. وكان الوقت دقات تغازل بهجة البحر، ونحن كالمأخوذين بسحر البحر وفيضه الغامر! البحر من سحره يغري مراكب أحلامنا إلى الرحيل، حيث الروح تهوم في فضاء الشوق، كما تضج بعمق البحر أهوال لا يدرك حتى البحر أسبابها ومنشأها. من دهشتي وفتنة ما يحيط بي تساءلت: من جاء قبل الماء نحن أم البحر؟ وهل تنشأ الأصداف كما ننشأ من نطف يحتويها الرحم ويبدعها، كما يحتوي البحر نطفتها ويبدعها؟ وهل تفنى القواقع كما نفنى في لجة العصف أو في لجة الموت؟ ونصير بعد فنائنا رمل الشواطئ يلهو بنا الموج في أقداره حينا، وحينا إلى غموض الغيب يجرفنا؟ لكننا نحن لا ندري أكنا نحن من جاء إلى البحر أم البحر هو الذي نادى علينا فلبينا، وتهنا في كنه سحره وأسراره؟ جلسنا على الشاطئ نحدق في رجعة الأمواج ومدها، كأننا نقرأ عمقها خوفا علينا من هول صخبها قبل أن نرمي بأجسادنا إلى حضنها. غطست معهم قليلا ثم عدت إلى فتنة الشاطئ لأن بي شغف لألعب بالرمل كالأطفال، أشكّل منه أبراجا وقصورا وكائنات تشبه الكائنات في الطبيعة وتساءلت: من أين يجيء البحر يا بلدي؟ من ألقى به شالا على أكتافك الولهى، وصيّر شاطئ الرمل مرايا تضج بفتنة الأصداف والفضة والمرجان؟ ومن علّم الأطفال أن الماء منبتها، وأن الماء مسراها، وأن الماء إذ يعصف، مثواها ومرجعها؟ من علّم الأطفال أن القصر على الرغم من شموخه يبنى من الرمل، وعلى الرغم من رسوخه يفنى، ليرجع مرة أخرى إلى الرمل؟ ومن علمهم بأن الوقت مثل الموج يفني ما بنيناه، وإن الحلم أبقى مما تصنع الأيدي، وأن الحلم يستعصي على الأمواج والأزمان والأهوال والعسف؟! ومن علّم الأطفال أن ينسوا مآل قصورهم أمس.. وأن يبنوا بلا كلل كأنهم أول من يبني؟! كان الضحى مشرقاً وكنا ثلاثة والشوق إلى الإبحار في البعد العميق يسحرنا، والشمس غيّر طبعها الفصل. ألقت على الأجساد بهجتها.. رقَت حتى بدا اللهب الذي ساطت به الدنيا، ضوءاً أليفاً يرج الماء في رفق ويؤنسنا.. كنا ثلاثة وخفق قلوبنا كالموج الذي من سره الخفق!