بعد تلك الوضعية من الجلوس الإجباري، ومحاولة التظاهر بأنني طيب ومسالم، وعلى خلق، ومن أنصار المرأة، والمدافعين عن حقوقها، لعل وعسى يرضي الجارة، آثرت السلامة، ودفنت رأسي في الصحف بقراءة غير مركزة، فتململت الجثة السوداء، وأشعرتني حينها أنها تحسدني ربما على الجلوس بجانب النافذة، وجال بخاطري لو أن الجالسة بجانبي كانت يونانية أو مالطية لمرت الرحلة دون هذا الضيق من جانبي، ودون هذا القلق من جانبها، وربما تبادلنا أحاديث طريفة ومفيدة وبطاقات، أما هذه فجالسة تعد أصابعها وتخبئها، معتقدة أنني أنظر إلى يديها كعادة المجتمعات المكبوتة، أشحت بوجهي إلى النافذة، وبدأت أقلب المجلات بتوجس خوف أن تظهر صفحة فيها امرأة شبه عارية، ويزداد ارتباكي، حتى حينما احتبست المثانة، خجلت أن أستأذن تلبية لنداء الطبيعة، وبقيت أرجئ الموضوع لحين ميسرة، فقلت في نفسي لو أن حظ هذه الأخت الفاضلة كان عاثراً، وجاء مع شخص ممن يعاقرون الصهباء، ويتلذذون بكأس الراح، فما كانت فاعلة؟ فإذا كان الجار إنجليزياً فالشكوى المكتوبة ضد «الكابتن»، وطاقمه العامل، وضد شركة الطيران جاهزة، وسيسلمها في الحال، مطالباً بالتعويض والضرر النفسي، أما إن كانْ الجار أميركياً، فأقل كلمة سيسمعها لها: أنه دفع مالاً بقدر ما هي دفعت، وعليها أن تنتبه لشغلها، ولا تتدخل في شغله، أما وأن الجار عربي، ومن النوع الخجول الذي يأكلون عشاءه، فستركب على ظهره، وستركّبه الحق حتى يسمع المضيفة بالنيابة عن قبطان الطائرة تهنئ الركاب بسلامة الوصول. ظللت في ذلك الوضع الانتباهي الكشافي أعد الساعات، سمعت أغاني، وتنقلت بين القنوات، وجافيت النوم، وخفت إنْ غفت عيناي أن أتقلب، وألوي عليها، ظلت تقرأ في كتيبات بحجم «حرز الجوشن» و«الحصن الحصين»، وعدت أنا للفيلم القديم، والذي كنت أتابعه دون أي دهشة، كان تسجيلياً عن ارتياد الآفاق، حتى شهية العشاء قطعتها، فكلما سألتها المضيفة عن الأكل والشرب، ترد: لا.. لا، فعافت نفسي الأكل، تذكرت المضايقة، وقمت أمشي على أطراف حوافري بمثانة غير فارغة، باتجاه إشارة مضاءة بالأخضر تشير إلى أن دورة المياه فارغة. رجعت بعد أن طلّقت قدمي، دون أن أرفع عيني فيها حياء، متبعاً الخطوات المحسوبة منعاً لأي تصادم غير مقصود، جلست أردد بعض الأذكار، والدعاء بصوت شبه مسموع، لعل وعسى أجد نقطة تقاطع بيني وبينها، غير أن الصمت ساد ثانية، وغاب كل واحد منا في عالمه حتى الوصول بسلامة الله وحفظه.