كان الحج قديماً جماعياً، يخرج إليه الناس زرافات، ويتلاقون مع جماعات، حتى تصبح قافلة يقودها دليل، يتعاونون على الخير، واتقاء شر الطريق حتى يصلوا إلى الديار المقدسة، وكان المودعون يرافقونهم إلى أقصى نقطة ممكنة، ويستقبلونهم فيها أثناء عودتهم، يظلون ينتظرون القافلة أشهراً، عائدة، محملة بـ«شفايا الحج» و«الزوّاره» من مكة شرّفها الله، والمدينة المنورة، كان الصغار أكثر فرحة بعودة الحجيج، وهم يحملون لهم الطواقي المزرّاية، والبشوت المخورة، والعقل المقَصَبّة، والألعاب، والرشاشات، والخرخاش، والكاميرات الصغيرة الملونة التي تعرض صوراً لمكة والمدينة، والمسابيح، وسجادات الصلاة، والأقمشة، وشيل الوسمة للنساء، والشماغ الأحمر، و«المساويج». ومع بداية زيادة الحجاج والمعتمرين، وتسهيل أمور المواصلات وتطورها، ظهرت عندنا حملات مقاولي الحج، حيث تجدهم ينشطون قبل أشهر من بدء موسم الحج، بالإعلان في الصحف بحجم صغير يدل على بخل مهني بالتأكيد، ويزورون البيوت يعرضون خدماتهم للموسم الديني، فتجد المقاول هنا من الأتقياء، ويختار لحملته اسماً لصحابي جليل، كعبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وما أن تتسلم الحملة من الحاج الفلوس، وتوصله إلى مكة، حتى يتغير مسماها إلى أحد غلاظ قريش، وتصبح الغرفة التي لشخصين، تتراص فيها ستة رؤوس، والموقع الذي كان يحلف المقاول عليه برأس أولاده أنه قريب من الحرم، فإذا هو في آخر شعب عامر، والأكل الذي يقدمه «عيش المعاريس» أطيب منه، أما السيارات المريحة والمكيفة، فكانت كحافلات المدارس آخر العام الدراسي، أما سائقوها فجُهم قُهم، كانوا يخضّون أكباد العجائز خضا، حتى تحلف الواحدة منهن، إنها لن ترى أولادها ثانية، وبعضهن يتلون وصيتهن، وأخريات يقسمن أنها آخر حجة، ويظللن يدعون على السائق، وهن محرمات. أما منى والمبيت فيها، فكانت خياماً أشبه بمعسكر لاجئين، فكل شيء مكدس من أكل وفضلات وروائح تبشر بعدوى متناقلة، وهو الجهاد الذي يتمنى لك المقاولون الاستشهاد فيه، لكي ينقص رأس، ويقل فم، ويفضى مكان، وحجتهم أنك آت للحج، وليست سفرة إلى «العالي» أو أوروبا، ظل المبيت في منى يذكرني دائماً بحج أحد الأقوياء، من فرط جهله الذي كان يرجى منه المثوبة والأجر المضاعف، ظل هذا الحاج الشديد بملابس الإحرام في مكة ثلاثة أشهر، يكابد ويعاني ويقسو على نفسه، ومشى من مكة إلى المدينة على قدميه، وظل يرمي الشيطان كل يوم، ويصعد تلك الجبال التي لا يعرفها، لم يبق إلا أن يحارب الكفار، فما وجد!