يمثل لي موت ماركيز بعد احتضارٍ طويل وغيبوباتٍ، نوعاً من التماهي بين الكاتب ومخلوقاته السردية. كثيراً ما تحدث ماركيز عبر شخصياته عن الموت والفترات الأخيرة من الحياة. كانوا يستقبلون الموت بشكل متشابه: هذيانات واحتضار مطول واستعادة فائقة الدقة للمكان والذكريات والأزمنة. واقعة واحدة لن يكون بإمكانه اقتناصها: واقعة موته التي صرّح ساخراً بأن ما سيفقده عندها هو أنه لن يستطيع سرد تفاصيلها. سوف تنتقل إلى ماركيز من شخصيات رواياته وقصصه القصيرة عدوى الاحتضار الطويل الذي تختلط فيه التهيؤات والأوهام والأحلام بالواقع والذكريات والمواجع. وتلك هي حقيقة أسلوبه الذي يُصنّف نقديا ضمن الواقعية المطوّرة الموصوفة بالسحرية، كناية عن عجائبية أحداثها والغرائبية التي كثيرا ما دافع ماركيز عن مرجعيتها الحدثية بالتذكير بشبيهاتها التي وقعت في الماضي، كطيران المرأة، والمخلوق بذيل خنزير، ومطر الضفادع، والفراشات التي تلازم الشخص: مزْجٌ بين الممكن والمتخيّل، الواقعي والأسطوري، الماضي والحاضر. وبذلك استطاع أن يقدم نوعاً مقبولاً من الواقعية بالموازنة بين منهجها المنحاز لتفاصيل الحياة وموضوعاتها الكبرى، وأسلوب عرضها سردياً بما يحفظ للمتون الحكائية فنيتها وجماليات قراءتها. وهنا لابد من تذكّر المؤثرات التي كانت فاعلة في تكوين واقعية ماركيز وفي مقدمتها كنز العجائب والغرائب الحكائية: الليالي العربية التي اعترف بما تركته في وعيه وثقافته. وعزز تلك الأسلوبية المميزة بالتأثر بوليم فوكنر وجيمس جويس، قرأهما في العشرين لكنه سيعيدهما لاحقا؛ ليكتشف المزيد مما فاته، رغم أنه لا يتعمق مثلهما في الظواهر عند سردها، ولا تستحيل الأحداث والحبكات لديه إلى مناسبات للتأمل المجرد. على العكس تتحدد شخصيات ماركيز بهوياتها التي يصنعها تاريخها وسِيَرها ومصائرها. لذلك يحضر البعد التاريخي للشخصية دوماً سواء بطريق الحدث أو الاسترجاع في لحظات التذكر عبر حلم أو احتضار. وتلك هي شفرة الحياة قبل غرقه في (الاستسلام) للاحتضار كما تصفه إحدى قصصه. يقول ماركيز في تقديم مذكراته (عشت لأروي): “الحياة ليست ما يعيشه أحدنا وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه”. وهذا تعبير عن مركزية الذاكرة لديه وعملها بجانب خياله والاهتمام بطريقة عرض السرد. إنه يستحضر التفاصيل بشكل مدهش؛ فتأخذ حيزاً كبيراً من مساحة السرد. الجميع يسترجعون ما احتوت حيواتهم: جنرالات وجدّات وأناس بسطاء ومحاربون قدامى ومتقاعدون، مستثمراً ما تتيحه الغيبوبات وتشوش الذاكرة والخرف من حرية الاستعادة والخلط بين الأحداث، هو أيضاً كأنما أصابته عدواهم، فعاش لحظات احتضار وخرف وهو في السابعة والثمانين؛ ليموت بعيدا عن يوتوبياته وأمكنة صباه وشبابه تلك التي خلدها في أعماله. ماكاندو ذات الرنين السحري: اسم يقول عنه: “كنت أعرفه منذ طفولتي ولكن شحنته السحرية لم تتكشف لي حتى ذلك الحين”. وكان يمجد الشيخوخة لما فيها من حرية كما فعل بطل (ذاكرة غانياتي الحزينات) عند بلوغه التسعين باحثاً عن ليلة جنونية احتفاءً بحياته؛ لأن “الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان”. هكذا عاش ماركيز ليتذكر ويروي ..وحتى الغياب.