عندما التقيت صديقتي بعد غياب طال لأكثر من أربع سنوات، كان شعورنا واحداً، هناك لقاء يومي بيننا كسر غربة الزمن وجسّر فجوة المسافات، كنا نتحدث باستمرار عبر الهاتف وعبر مواقع التواصل، كنا نعرف حركة بعضنا بعضاً، تطورات تفاصيل الحياة حولنا وحركتنا الخاصة ضمن هذه التفاصيل، اهتماماتنا، كتبنا التي نقرؤها، أسفارنا وأصدقاؤنا، كان كل شيء يخصنا يبدو معروفاً وجلياً، وكأننا نعيش في البيت نفسه أو في ذات الحي، فلم يعد هناك بعد أو فراق بالمعنى الذي كان سائداً قبل ثورة تقنيات الاتصال والتواصل، بدت هذه الحقيقة جلية لنا وهي تترسخ في كل لحظة، ليس باتجاه تقوية العلاقة بين الأصحاب فقط، ولكن باتجاه تكريس مفهوم التواصلية والتفاعلية الإنسانية عموماً، وإلغاء حواجز الزمان والمكان عبر هذه الأجهزة التي تستقر بوداعة صغيرة في جانب من حقائبنا أو جيوبنا، ما يستدعي استحضار آلة الزمن التي لطالما قرأنا عنها! يستوقفني كثيراً موضوع التواصل الإنساني، إن كان ذلك عبر الزمن أو عبر المسافات أو بين الأجيال، حتى صرت اخمن أن الإنسان كائن متواصل أكثر منه كائناً ناطقاً، وهو كائن اجتماعي لهذا السبب، فما يجعلك اجتماعياً هو استمرار تلك الخطوط التواصلية البينية بينك وبين الآخرين في حالة حركة مستمرة ومفتوحة، فأنت كائن حي واجتماعي بالقدر الذي تتواصل فيه وتتحدث وتتفاعل وتتقبل أفكار وآراء الآخرين وتسمع وتستمع إليهم وتسمح لهم بالاطلاع على أفكارك ومعتقداتك وتوجهاتك والأكثر من كل ذلك حين تتمكن بلياقة إنسانية عالية من أن تختلف مع الآخر حول قناعاته بالقدر نفسه الذي تمنحه الفرصة ليختلف معك حول قناعاتك دون تشنج ودون أن تتمترس خلف نظرية المؤامرة أو يتخندق هو حول فكرة «أبلسة الآخر»! بالنسبة لصديقتي، فحين أوضحت لها أنني أرغب بجدية تامة أن أتمكن خلال الستة أشهر القادمة من الحصول على فرصة حقيقية لترجمة ثلاث روايات رصينة من اللغات الفرنسية والإيطالية والإيرانية، لم تتردد أبداً في إجراء اتصالاتها حول العالم لتتحدث مع أصدقائها في باريس وايطاليا وبيروت لهذا الغرض، وقد كان من اتصلت بهم أشخاص من ذوي التخصصات الدقيقة في مجالات أدبية وفكرية وبحثية لنتمكن من خلالهم من أن نحظى بضالتنا، في الوقت الذي تواصلت فيه أنا مع مترجم عراقي وآخر سوري، أقول ذلك لأصل إلى خلاصة دقيقة حول التواصل الذي غفلنا تماماً عن حكمته، فالله خلق الناس لتتواصل حين جعلها شعوباً وقبائل لتتعارف، وما التعارف غير ذلك؟ غير أن نتواصل ونتحدث ونستمع لبعضنا ونأخذ من ثقافات بعضنا ونترجمها ونتناقلها، فنعرف ونتعرف على بعضنا إنسانياً وحضارياً وبشكل وطريقة أفضل وأسلم! لم يكن من قبيل الصدفة ولا البذخ السلطوي ولا بسبب فائض الثروة والنفوذ وشهوة الاستحواذ والتملك أن يستجلب الخليفة العباسي المأمون عيون التراث والمعارف الإنسانية إلى مكتبته الشهيرة (دار الحكمة) ويحضر معها كبار المترجمين من كل اللغات لينقلوا التراث الإغريقي واليوناني والروماني والفارسي والهندي الى العربية، دون أن يلتفت الى أديان المترجمين ومعتقداتهم وأنسابهم، لقد كانت مهمتهم أن يكونوا صلة وصل بين الشعوب والحضارات، همزة تواصل، جسر عبور متين بين العقول والعقول، بين الأمم والزمن، لتبقى الحضارة مستمرة، وليبقى سلسال الإنسان جارياً كنهر يمجد التواصل ويفيض على جانبيه نتاجاً إنسانياً خصباً لا يحفظه سوى مبدأ التواصل والاتصال! ayya-222@hotmail.com