اللهجة هي لغة الإنسان التي جبل عليها فاعتادها وأصبحت لغته الأم، يُقال فلان فصيح اللهجة أو صادق اللهجة، كما أنها تعني جرس الكلام، وطريقة نطقه، وقد تطلق على اللسان أو تعني الولع بالأشياء، ومن هذا الجذر نفسه تأتي كلمة لَهْوَج الشيء أي خلطه أو أداه بسرعة دون إحكام، والطعام الملهوج طبقاً لقاموس لسان العرب هو الذي لم ينضج، وهو يستشهد بقول الشاعر المغرم باللحم النيء: (خير الشعراء الطيب الملهوج/ قد همّ بالنضج ولما ينضج). وكنت شخصياً أعتقد أن كلمة لهوج هذه عامية سوقية حتى قرأت ابن منظور وشاهده. وكلنا نعرف أن هذه اللهجات مأثورة منذ القدم، فكل قبيلة عربية حافظت على لهجتها وكتب بها الشعراء قصائدهم بما فيها من خواص مميزة إلى جانب لهجة قريش التي التزم بها كبار شعراء العرب منذ الجاهلية ونزل بها القرآن الكريم وأصبحت هي عماد الثقافة والمعرفة دون أن تؤدي إلى القضاء على لهجات القبائل، بل تسربت هذه مع الفتوح الإسلامية إلى لغة الحياة في المجتمعات العربية ممتزجة ببقايا اللغات الأصلية المندثرة وفاتحة صدرها لاحتواء الدخيل عليها من اللغات الأخرى، وأهم من ذلك تاركة وراءها قيود الفصحى فتحررت من الإعراب وأمعنت في تطوير أنماطها الصوتية والصرفية دون حساب، الأمر الذي جعلها تتباعد نسبياً عن الفصحى من ناحية كلغة أكسبها مرونة وحيوية فائقة من ناحية أخرى. وقد لاحظ علماء اللغة المعاصرين أن اللهجات العامية العربية المعاصرة لا تقع كلها في مستوى واحد، بل تنقسم إلى ثلاثة مستويات كبرى ليس بينها فاصل قاطع، منها عامية المثقفين القريبة من الفصحى المعاصرة ولغة الإعلام المنطوق، وعامية المستنيرين وأنصاف المتعلمين وعامية الأميين والطبقات الشعبية، ولكل منها تجليات فنية وإبداعية تتمثل في الشعر والأغاني على وجه الخصوص، وفي تقديري أن اعتبار أدب العامية انتقاصاً من الفصحى وعدواناً عليها موقف خاطئ، لأن لكل مستوى لغوي إنجازاته الإبداعية وشعريته المتميزة، بل إن ازدهار أشكال الشعر المكتوب باللهجات يضخ في عروق العربية دماء ساخنة جديدة ويضيف إلى حصيلتها ثروات عديدة تبعث فيها الحيوية والنماء، كما أن مبدعي العاميات لا يكفون عن التغذي بالفصحى والتدرب على الشعرية بامتلاك أنماطها التعبيرية والإيقاعية. وما كان يؤثر عن شوقي مثلاً من أنه قال إنه لا يخشى على العربية من خطر سوى أشعار بيرم التونسي بالعامية المصرية كان من قبيل التنافس الشرس والخوف على عرشه من جمهورية العامية المنتشرة كالحرائق بين أوساط الناس، لكن ما يهمني في هذا التقديم الذي أرجو أن يكون تمهيداً لقراءة بعض أشعار العامية المصرية أن أشير إلى واقعة قرأتها عن كيفية ارتباط كوكب الشرق أم كلثوم بشاعرها المفضل أحمد رامي الذي كان يطلق عليه شاعر الشباب ويكتب بالفصحى فقط، فطلبت منه أن يكتب لها أغاني بلغة الصحف منطوقة كما يتكلم الناس، لا تتبذل إلى مستوى الأغاني الخليعة ولا تنبو عن الذوق العام، بهذه المواصفات بدأ رامي جهداً خلاقاً في الإسهام في ابتكار مستوى شعري جديد.