صديق وحدته.. صديق اللحظات المحاصرة لذة وقته، صديق الأمنيات حبيسة الصدر، صديق المرافئ، رئة المدن في مغامراتها نحو غريب آتٍ مؤملاً بالخيرات، وقريب سيحرق البحر بحثاً عن لذة أخرى في مدن أخرى، صديق يوقن الآخرون أنه غير مؤذٍ، ولا راغب في أسى، ويوقن آخرون رغم ضحكته التي تجبره على أن يلقي بظهره، وتظهر فُرجة سِنّه، أنه بوابة للذين يريدون أن يعبروا، ولا يحب الأذى، صديق ترجمه النفّاثات في العقد، المثقلات بالعقد، ولا يعني له رمي أحد، هو أكبر من مساحة مظلمة في الرأس، وأرفع من عيون شاخصة بالحقد، يتراءى له، كما هي الرؤية والرؤيا. ليت كل إنسان مفيد كما هو النخل، والورد، كما هو باب يغلق مثل الستر، ولا يسرّب غير التعفف والامتلاء بالغنى والغناء، ويفتح كما صدر صديق، أو شراع يزاغي الريح محملاً بالبشرى والرزق! صديق يعشق همهمة الريح، قصيد المطر، الشبابيك المواربة على فرحة الصبية بالعمر الغض، يعشق الطيور في بكورها، وزهو الفجر، منادمة الندى، ومسايرة الظل، وسر العطر في الزهر، يعشق نواحي الموج القادم من بعيد طرباً لسيف البحر، مثل الريح والمطر والندى وضوع الفجر، المركب المبحر دوماً على سفر. صديق الأماكن: ذاك المنزل الذي يذكّره بعطر امرأة ذهبت وتركت شيئاً من سرها وسحرها وغابت، ذاك المطعم الذي بناه بحّار في أبعد نقطة من اليابسة، وأقرب بقعة إلى البحر، لأن ماء عينيه الأزرق، وذاك النُزل الذي يسكن بطن الجبل، يشعره بدفء الخشب، وحنو الصخر في ساعة ضاقت به الدنيا بما رحبت، صديق لأماكن لا يمكن أن يعبر بمحاذاتها دون أن يلقي التحية، ويرفع العتب، أماكن كانت حيّة في ذاكرته كما التعب، موج الرقصات الإسبانية، وسحر أميركا اللاتينية، فوضى المطاعم الإغريقية والإيطالية، الألق الفرنسي الرفيع حد مضايقة إبليس الصحراء فيه، أماكن حين يمر بها الآن، وتمر هي ضاغطة على صدغ الرأس، لا يملك غير أن يرسل آهاً متكررة حتى تكاد تحرق عشب صدره. صديق لم يعد أحد يكاتبه، وحده ساعي البريد الذي ما زال يحفظ بعض الود، يمر بحقيبته الجلدية المتهالكة، ويقرع بابه، ويلقي بدل الرسائل تحية، يشرب كأس الشاي واقفاً، ويشكو له تكهين مهنته التي سممتها الحاسبات الإلكترونية، فلا يجد غير ابتسامة ساخرة مرتسمة على طرف الفم، وكلمات قليلة مانعة: أن الأصدقاء اليوم ما عادوا قادرين من جهلهم أن يفكوا الخط، ويتهجوا الحروف الأبجدية!