الويل لك حين تدرك، بعد أن مشيت في خط مستقيم، أنك كنت تجري في الدائرة. وأن القدر الذي كنت تهرب منه، إنما كنت تعود إليه. والذكريات التي طويتها ورميتها في البحر، ستعود تبحث عنها حين تفتش عن قارب نجاة. والدرس الذي لقنك إياه المدرسون بالعصا، هو ما سيبقى في جدار الوعي وشماً لطبيعتك الأولى. ثم بعد ذلك، حين تكبر منشداً أسطورة أنك تغيرت وأدركت وفهمت الحياة، ستعود ترتطم بسؤال الجوهر عن معنى وجودك، وكأن كل معارف الدنيا لا تُشبع قطرة من عطش حبك للاكتشاف. ورأيتكَ تدخل السينما باحثاً بين ظلالها عن شبيهٍ لروحك. وعن امرأة داخ الشعراء وهم ينبشون في غيم الخيال بحثاً عن صفاتها، وما أفلحوا. وسمعتكَ تُصغي لمن صمتوا في عزلة الجبال، لكنك لم تفهم معنى أن يكون الصمت حكمة دائمة، والحياةُ ضجيجٌ ودوائر وارتحالات. وفي مرات كثيرة، كنتَ تستلقي على حرير الكتب، منقباً بين سطورها عن شوارد لم يجمعها الرواةُ، ولم يفطن لبريقها المدونون، لكنها كانت تعود تشرد منك حين تقف مواجهاً قسوة ما تراه. ولن تجد في الكتب الا المزيد من العطش، وسوف توهمك الروايات بوجود عالم آخر خفي لا يُرى بالعين. وسترسم القصائد في وجدان قلبك أصواتاً أجراساً تدق في المنتهى، ورنين أفواه يلعثمها الغزل، وسترى أنك أصبحت مغسولاً في البحور لكن دربك في جفاف. والويل لك مرتين إن حملت القلم. وكان أهون أن تحمل الجبال وتطوف بها متحدياً قدر القُساة لتصير وحشاً وسيداً بينهم. لكن الكلمات التي نزفتها في أول ورقة، أغوتك بفكرة الخلود. وجرّك الخيال لتصير ملكاً على عروش الريش، وتفتحت من وراء زنديك أجنحةٌ خضراء وطيرتك الأحلام أبعد من سماء النجمة الأخيرة. ومن ورقة على ورقة، بنيت قصوراً تسكنها الخرافة، وأشعلتَ في الحروب نار السلام، ورميت في كل نهر عبرته، أثر مرورك على الماء. ولم يبق غير أن نراك تغرق في قطرة حبر حمراء، وتتبخر في تلاشي الكلمات حين يتكاثر الساكتون، ويصير الأخرس رمزاً في رسائل عشقهم. تعال هناك. اخرج من ويل ليلك بالدخول في اليقظة، فاتحاً عينيك على ما يطرأ. منتبهاً، مدركاً، بأن ما يصيرُ الآن، صار لأنك تقرأ. وأنك، لو دخلت في الكتاب لابساً ثياب الحرف، تعش بيننا أبداً، وتبرأ.