أنت تصنع يومك، تصنع شكل وقتك، تصنع طبيعة حياتك وسيرورتها، أنت وليس أي أحد آخر، الظروف والمناخ والعلاقات والمال والآخرون لها علاقة بك وبكل شيء حولك، هذه العوامل تؤثر في إيقاع الحياة، في موسيقى الوقت، في ربط العناصر مع بعضها، لكنك أنت من يملك النوتة الموسيقية كلها ومن يملك مفاتيحها، ولكن ما يحدث غالباً لكل منا أننا لا نعرف ذلك، أو لا نكتشفه ولا نتوصل إليه، وربما لا نلتفت إليه إلا في وقت متأخر من أعمارنا، هذه طبيعة الحياة وطبيعة العمر ربما، هذا ما يفعله الجميع على أية حال، فحين نكون أصغر سناً وأقل تجربة، نظل في حالة تبرم ورفض لمعظم ما يحيط بنا، وعدم رضا عادة وشكوى لا تنتهي، وهذا واضح جداً، فمعظم الناس يشتكون من الوظيفة والمديرين وحسد الزملاء، وغلاء المعيشة وعدم التواصل والزحام ونهاية العلاقات الرومانسية و....! حين يكبرون قليلاً، تتغير توجهاتهم ونظرتهم للأشياء ودرجة اهتمامهم بالأمور والأشخاص والعلاقات والماديات، لكن الشكوى تزيد والتبرم يصير سمة حياة، ويصيرون في غالبيتهم أشخاصاً مملين ويجلبون الكآبة أحياناً، إنهم يصنعون يومهم وطريقة حياتهم ومن حولهم بشكل سلبي خالص، هم اختاروا ذلك وربما عودوا أنفسهم على ذلك أو اعتادوا عليه، لا فرق! في المحصلة النهائية نحن نعتاد خياراتنا مهما أفرطنا في جعلها كئيبة أو سلبية، في نهاية المطاف يقولون إن الإنسان ابن العادة، وسيد التعود! أتذكر تماماً أنني حينما غادرت دبي عام 2002 إلى جامعة كاردف في بريطانيا لدراسة الماجستير في العلوم السياسية، كنت أحمل معي عنوان سيدة عجوز في الثامنة والسبعين من عمرها، تعيش مع ابن معاق وتهوى العناية بحديقتها، كان علي العيش مع هذه السيدة لستة أشهر هي فترة تعلم اللغة الإنجليزية، كنت أتساءل خلال الطريق الطويل من لندن إلى كاردف كيف ستعتني بي سيدة في هذا العمر المتقدم، وكيف تعتني بنفسها وولدها المعاق ابتداء، العمر له أحكامه في نهاية المطاف، هذا ما تربيت عليه في النهاية! وقفت بي سيارة الأجرة أمام منزلها الصغير، قرعت الجرس، فتحت لي سيدة قصيرة وكبيرة في السن بشكل واضح، قدمت لها نفسي، اتضح أنها كانت تنتظرني، تناولت حقيبة سفري وأدخلتها إلى الداخل، فاجأني نشاطها وقوتها الجسدية، أدخلتني ودلتني على غرفتي وفتحت لي التلفزيون واستأذنت للذهاب إلى السوبرماركت، وقفت أنظر إليها، فأخرجت دراجة هوائية من مكان ما في الحديقة، استقلتها برشاقة وانطلقت! فيما بعد لم أسمع هذه السيدة تشكو من أي أمر، لا من القوانين ولا السياسات ولا الضرائب ولا الإعلام ولا البطالة، ولا من أولادها، كان لديها ابن وابنة متزوجان، يأتي ولدها مع صبيين كل يوم سبت ويقضون نهاراً كاملاً معها، وتأتي الابنة يوم الأحد فتصحبها معها طيلة النهار وتعيدها للمنزل قبل المغرب بقليل، يصنعون لها إجازة هانئة ترضيها تماماً وتكفيها لأسبوع كامل، بينما تتكفل هي بصناعة بقية أسبوعها وأيامها بمنتهى السلاسة. تزور معارض الزهور في المدينة، تعتني بحديقتها، تطالع أخبار الفضائح والنجوم في الصحف، وتحل المسابقات اليومية والأسبوعية، تشاهد التلفزيون، تعتني بوجباتي وتجلس معي لبعض الوقت، ومع ابنها كذلك، تتردد على السوبرماركت وتعد الوجبات (السمك والبطاطا الجاهزة)، تغسل الصحون وتكنس المنزل، لا تنسوا أنها في الثامنة والسبعين من عمرها، وأنها لا تشكو أبداً، هكذا يصنع البعض حياته! ayya-222@hotmail.com