كنت في طريقي من عاصمة القلب إلى دار الحي عندما رن الخليوي برقمٍ لا تعرفة ذاكرة الهاتف فلم أتردد بالرد فإذا بصوت فتاة تسألني: هل أنتِ الدكتورة عائشة بالخير؟ فأجبت بتلقائية: هلا وغلا... آمريني؟ فبكت وكأنها قد عثرت على كنز وقالت: أنت لا تدركين معاناتي حتى حصلت على رقمك؟ فقلت: عفواً، من حضرتك؟ فردت بتركيزٍ على ما تريد قوله فحسب وكأن هناك من يراقبها أو يرصد دقائقها على الهاتف: دكتورة، أنا صبيحة باليوحة المهيري من خريجات كلية التقنية وأود أن أقول لك إني حاولت مراراً وتكراراً الوصول إليك لأخبرك أني أسير على خطاك، وقد تأثرت بك كثيراً وأشكرك على ما زرعت فيّ من حبٍّ للحياة والعمل بإخلاص والطموح عالياً. وكما نحن فخورون بك... نتطلع أن يفخر بنا هذا الوطن الذي بالروح نفديه. عيشي حياتك بمبادئ النزاهة والمهنية التي تعرفينها ولا تدعي أي شخص على هذا الكوكب يغير مسار ذلك. أنا أحبك في الله وأدعو الله لك عن ظهر قلب وكلما تذكرت كلماتك زاد إصراري وكافحت في حياتي حتى عندما حالت الظروف دون حصولي على بعثة دراسية... كثفت جهدي وذللت التحديات، وها أنا أحضر للدكتوراه بصبرٍ وجَلدٍ ومثابرة، وأدعو الله أن يوفقني فأرد لبلادي جميلها! وأكملت حديثها بكلماتٍ أثقلت عليَّ ما أراه في نفسي التي أهذبها لتبقى صغيرة وبعيدة عن الغرور والكبرياء، وتسللت دمعة تعبر عن فرح... وقلت بصوتٍ مسموع: الحمد لله ما نقدمه يقف أمامنا. لقد بَنَت كلماتها في واقعي قصوراً من الأمل وحفزتني لفعل المستحيل خدمةً لأبناء هذا الجيل وتهيئتهم لمستقبلٍ لا يخذلنا أو يقلل من شأن ثقافتنا. وفي مساء ذات النهار كتبت لي صديقة عزيزة رسالة نصية بعنوان همسة المساء تذكرني بأنه: «لا يتواضع إلا من كان واثقاً بنفسه... ولا يتكبر إلا من كان عالماً بنقصه»، فجالت أمامي شخصياتٌ لا يختلف على غرورها وتكبرها اثنان، ففي عصر المناصب والماركات من النادر أن نجد أغنياء الروح والنفس ونزهاء النية، ويبدو أن صديقتي تتعقب سير تفكيري فأردفت رسالتها الأولى بأخرى كتبت فيها: قيل ليوسف في السجن «إنا نراك من المحسنين» وقيل له وهو على خزائن مصر «إنا نراك من المحسنين»! *** للعارفين أقول، سأظل أخدم وطني بإخلاصٍ ونزاهة ومهنية حتى أذوق الموت... وشكراً لجمال أهل الإمارات وللشابة صبيحة المهيري. أما من قصدتهم بالقول فهم بأنفسهم أدرى وإن تجاهلوا ما لا يدركون، فالكرامة صفة لا تنطبق على المتلون أو الماكر الذي لا يعي أن الخير ظافر، والشر خاسر، والشيطان غالبٌ عليه وشاطر، وأني لفداء أبناء الوطن وترابه وإن غيبني الموت حاضر.