عرفت السفر صغيراً، وحين أقول السفر أعني الاعتماد على النفس في كلّ شيء، وترتيب أمورك بنقودك القليلة، واستغلال كل الوقت والظروف من أجل قضاء وقت جميل في مكان غريب عنك، والاستفادة من تلك الزيارة علماً ومعرفة ومتعة، بحيث تكون حقائبك عند عودتك محملة بالكثير من الذكريات التي تزيد من أفق تفكيرك، وتنمي شخصيتك وتجعلك أكثر وثوقاً بالنفس، وتحفزك إلى السمو والترفع، وتعميق الأشياء الإنسانية في نفسك، وتصبح شخصية أممية، لا يعني الاختلاف مع الإنسان الآخر ديناً وثقافة وعرقاً وجنساً أمراً يدعو للاحتراب، بل للاحترام. أول بلد عربي في الشرق سافرت له كان الأردن، وأول بلد خليجي كان البحرين، وأول بلد في شمال أفريقيا كان المغرب، رأيت البحرين قبل 37 عاماً، حملوني لها مكسراً، وب«بَرّوَه» من الشيخ زايد رحمه الله، وعلى طيارة «أم أحمد، والأردن منذ 29 عاماً، مكافأة التفوق الدراسي، والمغرب منذ 28 عاماً، وليتها كانت قبل ذلك، أما أول بلد أوروبي، فكان إنجلترا، ثم فرنسا قبل 29 عاماً، أما الشرق الأدنى والأقصى، فكانت زياراتي الأولى إلى الهند أولاً، ثم تايلاند قبل 26 عاماً، بعض هذه السفرات جاءت بالصدفة، وبعضها الآخر كان مخططاً له. اليوم.. حين أعد المدن التي زرتها أراها تتعدى الـ 60 بلداً، ومئات المدن، بعضها أحببته، وتمنيت أن أكرر الزيارة، بعضها كانت قطيعة دائمة معه منذ الوهلة الأولى، بعضها أحنّ له بين الحين والحين، بعضها الآخر زرته أكثر من عشرين مرة، ولا أملّ أو أكلّ، بعضها تشبه أكل المستشفيات، مفيد لكنه غير شهي، فتبقى علاقته بك من بعيد لبعيد، ولا تراه إلا لحاجة عمل أو مؤتمر أو تجبرك ظروف الزيارة لسبب ما. خلال هذه الرحلات على مدى العمر القصير، ركبت طائرات خاصة، ودرجات مختلفة، وقطارات شحن، وقطارات درجة أولى، وسفنا عابرة، ومرات في أجنحة بحرية، وسيارات فاخرة ليموزين، لا أقدر أن أركبها في بلدي، وسيارات خربة، أكلت في مطاعم فاخرة جداً جداً، قيمة البخشيش الأدنى لا يقل عن ألف درهم، فما بالكم بطاساتها وصحونها وكاساتها، وخواتم من تجلس أمامك، وعطورها، والفرو المعلق في تلك الخزانة المحروسة، أكلت على رصيف المدن، «ساندويتش حاف»، وجبناً، وزجاجة كولا بالحجم العائلي، ودجاجة الماكينة، أو على مقعد يترجرج في مطعم شعبي على الطريق السريع، تنقلت من فوق إلى أعلى المساحات التي تسمح بها الحياة، ونزلت إلى أسفل الدرجات..