خذ من رمل أوطاني حفنة، ستراها ذهباً، وخذ من بحارها رشفة هي الزلال يتلألأ في الشمس، وإذا عرجت في كتب التواريخ، سترى أننا أول من نقش البطولات على جدار الزمن، وأن السيف كان يحملُ من أجل إعلاء القلم، وأن الروح إنْ لم تكن حرة، لا ينبغي لصاحبها أن ينام إلا حين يحملها إلى عالي القمم. ومن مجدٍ إلى مجد رفعنا الجسور معابرَ كي تهتدي الأجيال إلى مبتغاها. خضنا في دخان الحرب نرفع راية بيضاء، وكان السلام شعارنا، والحبُّ هو الفحوى، والتسامح شيمة نصرنا. وخضنا في عباب الفكر ندحض موجة الشك وندحر شرّها. ها هم الفرسانُ على صهوة الريح شقوا ظلام الجهل وأطلقوا سهم نورٍ لا يغيب. وها هم الحكماء اكتظّت بهم دفاتر الأيام يصدح صوتهم فيها واضحاً، ويُشتقُّ الفصيح فيها من الفصيح. خذ من لغة أوطاني قواميس الدرر، سترى الحكمة كتبناها بماء العقل ونثرنا نورها بين الأمم، وسترى أننا سقينا شجرة الأمثال حتى تورّد زهرها. ومن ألف قافية بنينا بيوت الشعر واتخذناها سكناً لا يضاهيه الخيال، وحرفاً بعد حرف، حرثنا في ضمير الأرض بديع المعاني وزينّا ليالي الشوق بأجراس السجع، كل الكلام درايةً، ولا يقالُ على عواهنه، به ومنه بنينا منطق الأشياء نُحاججُ غيرنا كي تستقيم لنا الرؤى، وما من ضدٍ إلا وواجهناه بالضد، وما من اعوجاجٍ في النطقِ، إلا وقوّمناهُ بالحجّة. ولذلك، فاضت أوراقنا بكلماتٍ مفتوحةٍ على التأويل، وصار لكل حقيقة وجهان لا يراهما سوى العارفين. ها هي الصحراء موجُ تلالها يتلو أنشودة الترحال، وها هو البحرُ دمعة في عين من يشتاق. وها هي الوردة البريّة ترسلُ من شذاها عبقا يفوحُ به النسيم. وها همُ آباء أغنيتي تصدحُ الذكرى بهم، والليلُ يصغي كلما شدّوا على وتر الرباب. كأن الأمس يجري في دمي وأنا أحدّقُ في مرايا المستحيل، متحصنا بعروبةٍ إسلامُها جمع بين مشرقها ومغربها، وانضوى تحت رايته بشرٌ من كل عرقٍ ودين. السيرةُ التي من مشى في دربها وصل البداية بالنهاية، وسبق الأولين والآخرين. اليوم، تكبوا بعض أحصنتي، ويصهل بعضها على بعضها. لكن في الأفقِ سحابة فيها الأمل، والمدى رحبٌ لا يزالُ لنلتقي، ونكون في غدنا أصحاب مجدٍ كما كنّا، ولو بعد حين.