«سكابرا».. مدينة جميلة دائماً، مقرونة بالبحر والساحل، متصلة بالمدن الريفية المجاورة، كأنما تحملها قوارب الحياة إلى أنماط مختلفة من السمات التاريخية، وما يميزها هو أنها تشتهر لدى البريطانيين «بالفش والجبس» طعاماً تختلف لذته عن سائر المدن البريطانية. هذه المدينة حملتني إليها الزيارة في أوج العمر، ومنها كانت رحلة صيفية سياحية ممزوجة بدراسة اللغة. ومن المصادفات الجميلة أن معلمي ديفيد كان يقطن بنفس الحارة، فكنا، في وقت الفراغ نسترسل في المشي بين الممرات والأسواق والمكتبات ومعالم المدينة، وكان حديثنا ينصب على العلاقة بين الحضارتين العربية والبريطانية، ولصغر سني ذاك الوقت إلا أنني أدركت ما يصبو إليه من دراسة حية للمعلم على الطالب ليستشف حياتنا وسلوكنا اليومي. وجدت في داخله أستاذاً ومعلماً ومثقفاً يعكف على نفسه في مدينة جميلة وصغيرة بعيداً عن المدن الصاخبة والساخرة من الغرباء، ومن منطلق الصداقة بين الطالب والأستاذ قرر دعوتي وصديقاً لي يدعى منصور لزيارة مدينة مجاورة لقضاء العطلة الأسبوعية، وحين حان يوم السبت، وجاء موعد الانطلاق في الرحلة التي كان من المقرر أن تبدأ في التاسعة صباحاً، تفاجأ الجميع، الأستاذ والعائلة، بأنني لم أصحُ ولم التزم بالموعد.. وبدت الدهشة على وجوههم وأمطروني بالأسئلة. بعد الانتهاء من الاعتناء بنفسي ذهبت بصحبة السيدة كيث، فقال المعلم: الوقت لدينا مهم. قلت: أعلم ذلك. قال: لماذا لم تصح حسب الموعد؟ قلت: لم أعلم بأن لديك سيارة خاصة، فضحك الجميع، فأجاب: هذه سيارتي، وتحرك بها مسافة إلى خلف المجمع السكني وأومأ لي بإصبعه قائلاً: هنا تقف. فقلت له: ولماذا لم نستقلها لما يقارب الشهر؟ فقال: نحن لا نملك بترولاً مثلكم، لذا نحن وغالبية البريطانيين لا نستعمل سياراتنا إلا للمسافات الطويلة. وجرى النقاش حول هذا الموضوع إلى أن اقتربنا من محطة البترول. فقال ديفيد: من سيدفع قيمة البنزين؟ فأجبته سريعاً: أنا، وأخرجت مئة جنية استرليني فضحك وأعادها إليّ، ودفع هو. ولما رأى دهشتي قال: تعلم أنني قرأت كثيراً عن كرم العرب، وأحببت أن أتأكد من ذلك. فقلت له: أنا أيضاً لم أتعلم منك اللغة فقط، بل تعلمت الكثير حول السمات الثقافية لكل شخصية. أسوق هذه القصة بمناسبة ما حدث من تحرير أسعار البنزين، لفائدتها في ترتيب الحياة من خلال الموازنة الشهرية.. كما أنها صورة حضارية تعكس كيف يعلم المرء حقوقه الذاتية بعيداً عن نسج الخيال.