الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جلفار.. تفاحة البحر.. شهقته الأولى

جلفار.. تفاحة البحر.. شهقته الأولى
19 أغسطس 2015 22:12
جلفار.. شقيقة البحر وتوأم الجبل (تصوير - راميش) رأس الخيمة تاريخ يبحث عن نفسه.. يقرؤها البعيد قبل القريب، عاجزا عن وصف هذا السحر الهاتف في الزمن السرمدي يقول: أنا باقية عداك، رغم عاديات الزمن، كاتمة عنك أسراري أيها الغريب، طالما أنت في قوقعة جهلك سجين، كاتما ريحك عن ناي آهاتي الفريد، أصم وأبكم عن سماع لحني الأزلي المغزول، كالحرير على كتف جنباتي التي لوثتها بمكر وجودك، وأنانية عزلتك، وجهل بوصلتك في تتبع شمسي في جبالي الخالدات، وفي سهولي الدافئات، وفي صحرائي القابعة هناك، عند سهلي الذي حماك، قروناً طويلة وأنت في رحم الزمان. أسماؤها بطعم الرمان جلفار الممتدة سلالم لولبية عميقة، في جوف الزمن، ناحتة ملامحه طينا، وعبرة، وحدث، وعين ساهرة على تدحرج التاريخ الإنساني الطويل في جبين الزمن، مدينة الصَير رمز الحسب، والنسب، والسلالة العريقة، المكتوب بالذهب، ذات الشموخ والرفعة، نحو فضاءات سابحة، اللؤلؤة المشعة على جبين الخليج، شقيقة البحر وتوأم الجبل، أو زهرة الرمان بالأحمر والأصفر تستدير، تستحم بريشة الشمس، على تفاحات الجبال، خيمة الغريب والبعيد الملهوف، ونور أمان لعابر السبيل. مدينة الاحتمالات المفتوحة، على الأسئلة الحارقة، بحثا عن ملامح ثابتة، تدون سجلها الذاتي مع جهود الأقدمين، وتروي حكايتهم الطويلة مع خطاطيف الظلام، وندوب الزمن، فتوسع ياقات العبارة، وتضع ختم النهاية، على تخمينات كثيرة، طرحتها جهود مبعثرة، لأقوام نكشوا في ذاكرتها العتيدة، التي بقيت عصية عن الفهم، رافضة البوح بأسرارها الخالدات، لمن لم يتذوق رطبها اللذيذ، مع صباحات نهارها الجميل، كأنها لك تقول: أنا اللازمن، أنا الصمت الناطق، أنا الماضي المتجدد، أنا الأسطورة والخرافة، ذات الآماد البعيدة، طبقات طبقات في التكوين الأولي، أنا صلصال من كوكب مهاجر، في سويداء اليم أبحر، مدينة أسود البحار، على شاطئ الخلود...أستريح. أسئلة الوجود أي علاقة أزلية تشكل الإنسان مع المكان، في الولادة، والاستقرار والترحال؟ كم نشبه أرواح المدن، وكم تشبهنا؟ هل تزعل المدن من البشر؟ هل تعتب على ساكنيها الغافلين، وبشؤون الأنا المتضخمة غارقين؟ هل تشعر بالألم، والحزن من ثرثرة لسان أسود، يلتهم ألوانها المسكوبة من يدي الله، باسم التطور، والحداثة، عن روحها الطيبة هو هجين؟ أسئلة بطعم نصل السكين، تغوص كالأبر تحت جلدك، وتحيله حلبة سؤال جارح، يطوف بك، كلما اتسعت ياقات الفضاء أمام عينيك، فتنسى جهات الأرض الأربع، وتدخل نطاق اللامكان، مع لوحة الوجود الفضفاضة، ألفة، ومحبة، وخشوع، تدخلك في خدر لذيذ، يجعل سمعك حادا للغاية، لأصوات الألوان، الأخضر مع سعفات النخيل الناهض، والأزرق المسكوب بالتناوب، مع البحر، والسماء، والأبيض الفسيح، الذي يلف الفضاء السيال أمامك، كالحلم المفتون برائحة البحر القريبة، والشمس الظامئة، سكرى تنزلق عارية، كشلال ماء دافئ، على أهداب الجبال السادرة، وهي تعانق الغيوم البيضاء، في علاقة حب وإثم، وخصرها العريض، يزنر الطريق بلا حدود، شمالا نحو مدينة الرمس، وما بعدها، في الطريق الى قلب القصيد «قلعة ضاية التاريخية»، إحدى أهم الآثار التاريخية، والمعالم التراثية والحضارية في البلاد، وآخر الحصون الصامدة، على سفح البلاد، والذاكرة الحية على آخر معارك البطولة، والبسالة مع الغزاة. ذاكرة من عرق الخلود التاريخ هنا شخصية نابضة، ناطقة، حالمة، قلقة، متحفزة، قوية، مثابرة، وإن تعددت ألسنة الأزمنة، وتشعبت دروبها، وتعددت، فالزمن هنا نفَس حي سيال فياض، بقصص بطولة وفداء، وعزيمة رجال حملهم الحلم على أشرعته البيضاء، وأبحر بهم نحو السماء، تتحسسه بمجسات الوجد والوجدان، وبطاقة روح الإنسان التي لا يضنيها شيء... مثل الفناء. فعلى قمة جبل زير تربعت، حجارته ماعز في نشيد الجبال، تشرف من عليائها على البشر والحجر، مثل معبد راهب زاهد يتلو صلواته للنجوم، قارعا أجراسه في خصر الريح، تتنشق أنفاس الجغرافيا، المتسللة من تحت سعفات النخيل، وأشجار السمر المحيطة بها كخصر غجرية تتلوى من ايقاع الكون، تسترق السمع لدبيب النمل حولها، تؤنس الليل في وحدته، ترصد النجوم، وتقرأ الغيب البعيد البعيد، تسبق عيون المتربصين، متحفزة، صامدة بوجه نيران الغزاة، رغم ندوب النار والبارود، وفيةً لذكرى أرواح طاهرة، تنفست فيها العزيمة، والإرادة، ورحلت، مع أنغام ناي شهر كئيب، فوق سحب المغيب الى الطرف القصي البعيد، دون قبلة للوداع الأخير. «ضاية» قميص المكان يلتصق بك التاريخ في هذا المكان بكل إنثيالاته، كالتصاق القميص بالجسد، وأنت تهم بصعود أكتاف الجبل الصخري المخروطي الشكل، بارتفاع 300 قدم على سلالم حديثة، خطتها جهود ادارة الآثار والمتاحف، تسهيلا لزوار كثر، جاؤوا من أصقاع الأرض، فضولا، وشغفا، في قراءة روح الذاكرة، وتتبع خيوط التاريخ، الذي خطه آباؤنا الأولون، بعزيمة لا تلين، تكشف عنه ذكاء عين المكان، وحنكة الجغرافيا، ومهارة البناء على هوادج الريح، دفاعا عن حياض الأرض، والسماء. وشوشات مختلفة غير جازمة، تدور حول تاريخ إنشاء قلعة ضاية، المكونة من برجين، وإن كانت تشير تقريبياً إلى القرن السادس عشر، على تل مرتفع يواجه الخليج بنيت، لأغراض دفاعية في زمن الحروب والندوب المتتالية، من فجر الزمان، في موقع استراتيجي، شكلت المفتاح الشمالي لإمارة رأس الخيمة، لتحكمها بلسان الساحل البحري، والممرات، والطرق المؤدية إليه، شهدت أسوارها القوية، أعتى أنواع الحقد، والنار، لتكون الشهقة الأخيرة أمام أطماع الغزاة، في يوم 22 من شهر ديسمبر عام 1819، منكسة راياتها الملونة، مع استسلام زعيمها (حسين بن علي) فداء لسلامة الأبرياء، من نساء، ورجال، بعد ملاحم بطولية، شارك فيها الرجال، والنساء، والأطفال، والشيوخ، امتدت من أسوار مدينة رأس الخيمة القديمة، التي طوتها الحروب والندوب، حتى آخر حجر رابض فيها، في مسامات قلعة ضاية التاريخية. محاربات جلفار الجسورات عطر منسي فواح في صفحات الخلود احتراما لشجاعة أرواح رحلت عنا، بكل شموخ وهدوء، ووفاء لذكرى من استبسل، وفدا تراب أرض السلام، حتى غدا بلون شقائق النعمان، نقتطف بعضا من أحداث واقعة تاريخية، تعود لبدايات شهر ديسمبر من عام 1819، تشكل مفصلا مهما من ذاكرة البلاد والعباد، تروي قصة كفاح ونضال، انبرى لها الرجال والنساء، نستمدها من مقالة نادرة عن «محاربات جلفار» للكاتب عبد العزيز جاسم، منشورة في كتابه «جحيم نيوتن»، يذكر فيها مقاطع من شهادات السير «تشارلز بلوجريف»، المستشار الإنجليزي لحكومة البحرين سابقا، عن بسالة أبناء الإمارة رجالا ونساء، في التصدي لنار الحقد والبارود، في أكبر حملة عسكرية، شنها الأسطول البريطاني على إمارة رأس الخيمة، أدت الى تدميرها عن بكرة أبيها، قصفا وحرقا، ولم تنته إلا مع سقوط قلعة ضاية التاريخية، ظهيرة 22 من ديسمبر، المعقل الأخير للمقاومة والكفاح. يقول عبد العزيز جاسم في «ساحل القراصنة»: «قبل فترة قصيرة من منتصف الليل، سمُعت طلقة من بطاريات المدفعية، وتلاها طلقات كثيرة، وبدا آنذاك، بأن القراصنة، يحاولون الهجوم المباغت من طرف المدينة، ويبدو أنهم يزحفون على بطونهم، من جهة الشاطئ، حتى وصلوا إلى خلف المدافع، فشنوا هجوما على الحراس، وعملوا فيهم بالسيوف والرماح، وقتلت مجموعة من الجنود، ومعهم العقيد المسؤول عن هذه المجموعة المتقدمة، فتقدم الجنود إلى موقع المعركة، مما اضطر العدو للهرب، بعد أن سقط العديد من القراصنة قتلى وجرحى، حاملين معهم جرحاهم»... «لقد كان الكثير من الجرحى، من النساء اللواتي شاركن في الهجوم، لقد كانت نسوة القواسم، يتميزن بالشجاعة والإقدام مثل الرجال». موال روح محارب قديم أصعد الدرج الذي لا ينتهي بقصيدة، نحو الموال البعيد، أسمع صوت محارب جسور مر من هنا، كقذيفة في الحرب، كسرت شظاياها القلوب، أصعد الدرج، واحداَ، اثنان، ثلاثة، مائة، مائتين، باسم آباء ناموا في هذه الساعات، مع فجر أزرق، تحت ظلال أغنية الحرية الأولى، فألمس فتنة الدنيا، كطائر أبيض سابح في المدى، تفتنه رائحة البحر البعيدة، المغزولة من عرق الشمس الظامئة، المسكوبة على رأسك وعلى سفوح جبال تشرب البحر، على سهل يلتف وينبسط كراقصة الباليه تمارس ايقاعها على زبد البحر، في تناغم ينبض من قلب الحكاية المجبولة في شريان حكمة السماء، تحرسها الغيوم، ويصفر باسمها الريح، كلما تثاءب الصباح. أسند قامتي السكرى بفعل الشمس وعرق الندى، بالريح، والروح الجريح وأشهر أسئلتي بوجه السؤال: أيهما يشكل ذاكرتنا، ويعيد صياغة وجودنا أكثر الزمان أم المكان؟ يتسع قماط شوق الروح، باتساع جغرافية المدى، فتضيق العبارة، ويتبلد معناها، والعين فيها حرير الدموع لتبكي الوراء، فأسرق قلبي المعلق فوق النخيل، وأركض مع قلبي أبحث عن وجه أمي، وسط البياض، فيبكي معي، ناي «محمود درويش» وهو يقول: «بكى الناي، لو استطعت ذهبت الى الشام، مشيا، كأني الصدى ينوح الحرير على ساحل، يتعرج في صرخة، لم تصل أبدا وتنزل فينا، المسافات دمعا. بكى الناي. شقَ السماء الى امرأتين. وشق الطريق، وشق القطا، فافترقنا...يا ناي رفقاً بنا... أتبكي لتبكي سٌدى، أم لتثقٌب صخر الجبال، وتفاحة الحب. يا رمحَ صمت المدى. بكى الناي. لو استطعت البكاءَ كنايٍ....عرفتُ دمشقا!» شموع السلام لحراس المكان أطوي شوقي المبلل بالندى، مثلما أطوي الكتاب، وأُودعه في حقيبة السحاب، وأشعل شموع الوداع، في قلب الريح، خشوعاً، وذكرى لقصيدة المكان، وحراس الزمان، وفي داخلي، دعاء الرجاء بالسلام والخلود، لآباء الوجود، على سلام ننعُم به، شُيد من عَرق الجبين، وأحمٍلٌ هوادج الريح، شراع أمنية بيضاء، ونجوى رجاء، في حفظ أرواح الآباء، التي تصمت بحضورنا بخشوع واحترام، بينما ابن الإنسان، ينسى الاحترام، فتعبث أيديه ألا «تبت» بخيوط الجدران، مثل طفل ينشد الخلود، على قارعة ظل طريق مهجور نسيه المكان. لكم السلام، يا رجال الزمان، وعلى أرواحكم ألف تحية وسلام، ولأجلكم نشعل شمعة السلام... وعلى صخرة الغياب، ننثر ورود الكلام الذي لما ينام..... قذائف بريطانية انتهت أعمال ترميم الحصن التاريخي لقلعة ضاية عام 2001م من قبل دائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة، وعثر أثناء عمليات الترميم على بعض من قذائف المدفعية البريطانية مدفونة في الجدران، وهي الآن محفوظة في متحف رأس الخيمة الوطني. وكان الحصن قد تحطم كليا بعد الحرب مع البريطانيين، وإن بقيت له آثار حتى عام 1823، وأعيد بناؤه مرة ثانية بدون معرفة أصله الأول. شاهد تعد منطقة ضاية واحدة من المواقع الأثرية المهمة التي منحت بعثات التنقيب مجالاً خصباً للوقوف على تاريخ المنطقة من خلال الآثار التي تم الحصول عليها، ومقارنة تلك الآثار بقريناتها من آثار الحضارات التاريخية الأخرى بالمنطقة، وكثيرة هي تقارير البعثات عن تنقيباتها لم تترجم حتى اليوم ومنها المتعلق بمكتشفات منطقة ضاية. وعول برأسين اكتشفت بعثة غوتنغ الألمانية للتنقيب عن الآثار عام 1987 مدافن جماعية في منطقة ضاية التاريخية عثر فيها على صفائح معدنية من الذهب مماثلة للمجوهرات التي عثر عليها في مقبرة القطارة في مدينة العين، وهي عبارة عن وعول برؤوس مزدوجة ولها ذنب برأس حلزوني مزدوج. كما عثر على دلايات معدنية مصنوعة من الألواح الذهبية أو الأليكتروم مزدانة بزخرفة حيوانات، ويبدو أن هذه المجوهرات كانت تخاط على الثياب للزخرفة أو أنها استعملت كقلائد عنقية تربط بخيط من الخرز تعود للأثرياء في المنطقة. عراقة تاريخية استطاعت جلفار التاريخية، الاسم القديم لإمارة رأس الخيمة أن تتبوأ مكانة قديمة ومرموقة بين المدن التي شيدت قبل الميلاد، إذ يعود تاريخها العريق إلى 5 آلاف عام قبل الميلاد، وكانت عامرة بسكانها العرب الأصليين الذين عاصروا مختلف الفترات والحضارات والعصور المتعاقبة، وتمكنوا في تلك الحقب التاريخية من بناء مركز تجاري رئيسي في الجزء الأدنى من الخليج العربي، وعرفت بتجارتها الواسعة والمزدهرة مع عدد من الدول في الشرق والغرب، وكانت أحد أهم طرق تجارة البضائع عبر العصور. وهي موطن أشهر البحارة والملاحين والفلكيين العرب، وهو أحمد بن ماجد الملقب بأسد البحار، واشتهرت بجودة فخارها الذي يصنع في منطقتي شمل ووادي حقيل، وهي من المراكز الرئيسة في إنتاج الأواني الفخارية التي كانت توزع على دول الخليج لأكثر من 500 عام. أقدم حبة قهوة في العالم دلت جميع المكتشفات الأثرية التي وجدتها فرق التنقيب في منطقة الكوش، الواقعة قرب منطقة شمل التاريخية في شمال الإمارة، حبة قهوة تعد أقدم حبة قهوة يتم اكتشافها في العالم، ويعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر إبان الفترة العباسية الممتدة من 750ـ1250م لتكون بذلك قد سبقت ما تذكره المصادر التاريخية المتعلقة باستخدام وتجارة القهوة بقرنين من الزمن. حصون حربية شهدت إمارة رأس الخيمة في العصر الوسيط، نتيجة لموقعها الجغرافي المهم ومواردها الطبيعية والمائية، وبيئاتها المختلفة، صراعات وحروب عديدة قياساً إلى التاريخ القديم للإمارات، وهذا ما يفسر انتشار أكثر من 500 موقع أثري معظمها حصون، وقلاع عسكرية وتحصنات دفاعية في كل بقعة منها. قصر الزباء يعد قصر «الزباء» الذي يعود تاريخه للقرون الوسطى القديمة، ويقع على قمة جبل مطل على منطقة شمل، شمال إمارة رأس الخيمة، من أقدم القصور الأثرية التي ما زالت شاهدة على تاريخ الإمارة، وما يزال موضع خلاف بين الباحثين حول هوية ومرجع اسم القلعة التي تعاني تهدم وتآكل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©