الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تجربة الخط والورق اللطيف

تجربة الخط والورق اللطيف
20 أغسطس 2015 02:41
1 ثمة تجربة جديرة بالالتفات، سوف يجد فيها الكاتب العربي، استدراكاً جميلاً للتهميش القاسي للكتابة اليدوية بالقلم والورق، بعد سنوات العمل على الكمبيوتر، فنحن جيل من العرب تربى على ممارسة إنسانية وتقنية تكاد تتداخل فيها مسألة اللغة والكتابة والخط بقدسية تكاد توازي القدسية الدينية. في لحظة ما، سوف يجابه فيها الكاتب الذي انهمك معتاداً على الكتابة على الكمبيوتر، سوف يجابه الإحساس بأنه ربما يكون قد بالغ في التفريط بمتعة وجماليات الخط بالقلم والورق. وسوف ينتابه الشعور نفسه الذي انتابني وأنا أكتب كتاب طرفة بن الورد، الشعور بخسارة فادحة لا يتوجب الاستهانة بها، ففي العربية، يظل النص ممتزجاً بتجربة الكتابة اليدوية، من حيث المتعة والدلالة. 2 أذكر أنني ما إن بدأتُ في إطلاق القلم في مسودة الكتاب الأخير، بحبره السيّال، على الورق المصنّع يدوياً، بسطوحه الطرية المحببة، حتى شعرت بأن أرضاً يانعة تفتح سماواتها أمامي، منذ اللحظة الأولى حضرت في حواسي كل سنوات العشق القديم للورق والأقلام وألوان غامضة المصادر والمذاهب. وحضرتْ أمامي المخطوطات القديمة التي صادفتها في مكتبات ومتاحف العالم وبهرتني البروق الساطعة في سواد حبرها العتيق، ورحت، يوماً بعد يوم، أبسط أنواع الورق المختلفة العجائن بأقطانها الناعمة وطحينها الدقيق، وأدفق فوقها الحبر الأسود، فتتوهج الحروف والكلمات منبثقة في اندياحات مختلفة الحيوية والسلاسة والتهدج والتعرجات، حيث إن كل نوع من هذا الورق سيكون أرضاً مختلفةً بتضاريس حية طازجة متغيرة، تتفاوت فيه النعومة والخشونة فيؤثر ذلك في حركة الريشة وانسيال الحبر ومنعرجاته، الأمر الذي سيجعل الخطّ غيره في كل مرة، حتى ليبدو لك أن صاحب الخطّ في كل دفتر وفي كل ورقة هو شخصٌ آخر في كل مرة، وهذا بالضبط ما سيحلو لي، ويدفعني أكثر لتغيير الورق والكراسات في كل نص، تلك هي اللذة المدهشة التي لن يعرفها الذين يهجرون الكتابة بالقلم، ويتأخرون عن ملامسة الورق المصنع بأقلامهم وأحبارهم وكلماتهم وحروفهم المتعبة ليصيبها الانتعاش. فالخطّ والكتابة ضربٌ من إنعاش الولع بالتدله. 3 كنت أسأل نفسي، فيما أتوغل في خطّ النصوص على سداة الورق الحيّ: تجربة من هذا النوع هل تطرح على الشاعر السؤال المتعلق بمفهوم حميم من الشعرية، وتطرح على عاشق التشكيل مساءلة مفهوم الرسم واللون وتجلياتهما التقنية المحتملة، فيما يشتغلان في ورشة واحدة؟ 4 بالنسبة لي سيكون الأمر أكثر تشويقاً ومسؤولية، فبعد العلاقة القديمة بولع الرسم، والغنية بالتجارب المشتركة مع الرسامين، تأتي هذه التجربة، باعتبارها سؤالاً، يضعني في مهب المغامرة، ليمتحن الحواس كاملة، ويضاعف المتعة. ربما جاءت هذه التجربة في واحدة من الذروات المنتظرة لتلك الأعمال المشتركة، المتنوعة، المتفاوتة النجاح والفشل، لأكون فيها حراً في الريح. بأجنحة جديدة. لكن دون أن أعرف، على وجه التعيين، ماذا أريد، هل هو بحثٌ عن الشيء الفني، أم هو السعي الحثيث إلى خلق الشيء الفني مجدداً؟ هل ثمة رغبة مضمرة في بلورة منظومة من المفاهيم الفنية المتصلة بالعلاقات الغامضة الملتبسة بين رؤية الإبداع وشكله؟ بين موضوع/ مضمون النص ولغته وأدواته؟ أكثر من هذا، هل هذا اقتراحُ حوارٍ بين حدود النص بوصفه أدباً، وآفاقه بوصفها فناً قابلاً للتجلي في أشكال تعبيرية مختلفة؟ 5 فيما كنت منهمكاً في العمل، وبمعزل عن الكون، جاء ابني محمد ليشاركني التجربة بموسيقاه الخاصة، فبعد أن قرأ جانباً من المسودات الأولى في برلين، قال: «ثمة جوقة من الملائكة تصغي معي لأجراس كثيرة في هذه التجربة». ووضع مخيلته الموسيقية في مهبّ المختبر الفني الذي كنت أغرق في موجه الكريم. وفيما كنت منهمكاً في ورشة المخطوطة الفنية في البحرين، جاءت ابنتي طفول برؤيتها التصويرية، وراحت تسجل تلك اللحظات الغريبة غير المعهودة في تجاربي السابقة، قالت: «هذه تجربة لا نصادفها كل يوم، وسأضعها في مكانها من الذاكرة». ثم أطلقت لعدستها حرية المشاركة الفنية، حيث الصورة أخت الواقع، وابنة الخيال. لقد وجدتُ في حضور طفول ومحمد، حواراً عفوياً نادراً يصعب تفادي مغرياته، وشعرتٌ أنها اشتراك فاتن في التحية الصادقة الحميمة التي جمعتنا للتحليق بكل هذه الأجنحة مع كتاب حياتنا. 6 هل لا يزال السؤال الحاسم الجوهري هو: ماذا يريد المبدع، عُمقياً، من العملية الفنية برمتها، فيما ينجز تجربته؟ ماذا يريد أن يحقق في الفن، وماذا يهدف من الفن، خارجَ الفن؟ ربما كانت هذه الأسئلة في حدود مشاغلي سابقاً، لكنها لم تشغلني هذه المرة طوال سنوات انهماكي في طرفة بن الورد. لقد كانت متعتي، أثناء العمل، هي فقط ما يستغرقني طوال الوقت، حتى أنني أكاد أقول إن تلك المتعة هي الغاية الأعمق في حد ذاتها التي ذهبت إليها، لكأن الفن هنا أفق يتم الذهاب إليه أكثر من توهم الوصول، ربما كان الفن في حقيقته ذهابا بالدرجة الأولى. وأستطيع القول هنا، الآن، بأن كل ما كان يحدث ويتحقق من سياقات وتقاطعات ورؤى فكرية، إنما حدثت أثناء ذلك الذهاب الفاتن، الحر، المنشغل بالتحديق والاكتشاف والكشف أكثر من عنايته بالنتائج والغايات. وربما حدث ذلك استخلاصاً عفوياً لما لا يقاس ولا يحصى من تجارب الشخص في حيوات متراكمة متكاثفة، واحتدامات فنية، ونصوص عديدة سابقة، يحدث كلما طعن الشاعر في السن والكتابة. 7 كشفتْ لي تجربة طرفة بن الورد، أنني بالكاد أبدأ. بالكاد أعرف أنني أبدأ. فيما أقفُ على ضفاف الكتابة التي تعالج روحي كلما تعرضتْ للعطب. لقد كان ذلك الكتاب يعلمني كثيراً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©