الثنائيات هي ما يحكم سيرورة الحياة والتاريخ الإنساني، الموت والحياة أشهر الثنائيات وأكثرها ثباتاً وخلوداً، الأمل واليأس، البداية والنهاية، التخلف والتقدم، الأبيض والأسود.. ولو بقينا نكتب فلن نتوقف، والغريب أن الثنائيات هذه قد تلتقي في منتصف المسافة لتولد حالة غريبة وأحياناً غير مفهومة، ربما ولدها اللغويون بنحت مصطلحات جديدة في منتصف تلك المسافة، وربما ولدها شغف الإنسان وتوقه للحياة والنجاة، ففي منتصف المسافة بين التشاؤم والتفاؤل ولد التشاؤل، وبين الأبيض والأسود ولد الرمادي، وبين اليأس والأمل غالباً ما نتمسك بالحياة حتى آخر لحظة، وحين لا يصدقون المأساة التي تهبط عليهم يجن بعضهم ويصمت الآخرون، بينما يصرخ البعض حتى فقدان الصوت. لقد ظل العالم كله لأيام طويلة يتابع أخبار الطائرة الماليزية التي شكل حادث اختفائها لغزاً حقيقياً تحول إلى هوس إخباري وفضول أصاب الجميع في معرفة التفاصيل، أجهزة استخبارات وطائرات ورادارات ومحللين وخبراء، ظلوا يقتفون أثر الطائرة لأيام طويلة، مع سيل من الفرضيات والاحتمالات لم يتوقف، ففي نهاية كل نشرات أخبار العالم يقول المذيع أو المذيعة « والآن مع آخر أخبار الطائرة الماليزية المختفية » إلى أن وصلت آخر الأخبار على لسان الحكومة الماليزية التي أكدت خبر العثور على حطام الطائرة التي انتهت وجميع ركابها في أعماق المحيط الهندي ! خبر قصير جاء على شكل رسالة نصية تلقتها هواتف تعود لأسر 239 ضحية من ضحايا الطائرة المنكوبة، هذا يعني وجود 239 مأساة في منازل وعائلات متفرقة في العديد من الدول والمدن، المأساة بحد ذاتها حالة من الغرائبية والفجائعية والبكاء والحزن اختصرها خبر قصير جداً، متشابه وبارد جداً، ما يستدعي مشهد عشرات الأمهات والأبناء والزوجات والآباء والأصدقاء الذين ظلوا معلقين بين الكلمات وشفاه المذيعين والمذيعات بأمل زائف ووهمي لكنه كان بالنسبة لهم أرحم كثيراً من الحقيقة القاتلة. وعلى مدى تاريخ وسائل النقل أدميت القلوب بأخبار أشد إيلاماً، كخبر غرق السفينة «التايتنك» ومقتل جميع ركابها بداية القرن، واحتراق الطائرة الكونكورد الفرنسية عام 2000 في سماء باريس مخلفة 110 قتلى، وكارثة الطائرة الإثيوبية التي تحطمت في سماء بيروت منذ عدة سنوات وغيرها كثير، وخلف كل كارثة جوية هناك عشرات القصص والفجائع، وفي الوقت الذي يتحول فيه الحادث إلى مجرد خبر وحياة الركاب إلى قصة موت عابرة سرعان ما تنسى يكون هناك آخرون قد تحولت حياتهم بمقدار مائة وثمانين درجة، يصير هناك أرامل وأيتام وأصدقاء منكوبين وأمهات ثكالى، مأساتهم لا تكمن في رحيل أحبتهم، ولكن في رحيل قلوبهم مع أولئك الراحلين. لا أحب متابعة مثل هذه الكوارث، لم أسأل ولم أتسقط أخبار الطائرة الماليزية أبداً، لم يصبني هوس الفضول يوماً، لأنني أعلم يقيناً بأنني وأنا أتتبع الخبر إنما أقتفي آثار الموتى، أولئك الذين رحلوا عن الدنيا في لحظة موت لا يمكننا تخيل مقدار رعبها، لا تختفي طائرة في الفضاء ولا تتبخر حتماً، كانت الفرضية جاهزة منذ البداية، لكن مواجهة حقيقة الموت تبدو صعبة في كل الأوقات والظروف، لكننا مهما تحايلنا في إخفائها أو تأجيلها فإنها ستطفو أخيراً على سطح المحيط. ayya-222@hotmail.com