لم تكن قعدة متعمدة. مررنا نلقي التحية على العم «محمد وردة». رجل يبيع الورد منذ أربعين عاماً. أصبح معلماً من معالم شارع شامبليون في القاهرة، لا يمتلك محلاً خاصاً به، فقط كرسي وطاولة على زاوية الشارع. ولا يريد شيئاً سوى أن يعود الشارع حياً حيوياً ومليئاً بالورد. رجل في زحمة الحياة يؤمن بخيرية الوردة ودورها في جعل الحياة إنسانية أكثر. يقول ليست رفاهية أن تشتري وردة لشخص تحبه، أو لتعبر بها عن مشاعر شكر وامتنان، الورد رسول القلوب، وأراد أن يظل هناك في ذات الناصية حارساً لرسالة الوردة، وأناقة الحياة. يجتمع حوله الأصدقاء، المثقفون، الفنانون، طلبة العلم، والباحثون عن مكان في زحمة الأشياء، يقدم لهم الشاي، الماء، القهوة، كراسي تسحب من هناك إلى هنا كلما أضيف شخص جديد. قد يكون صديقاً قديماً أو شخصاً يأتي لأول مرة، في كل الحالات هم يعرفون بعضهم بعضاً، جميعهم مؤمنون أنهم أبناء الحياة وكلهم إخوة، لا أحد يسأل أحد من أنت ومن أين جئت، يكفي أن يتطارحوا لهيب الفكرة وجدلية السؤال ويقين القلب الباحث عن سكنه في رهافة الشك. يلقي ممدوح فوزي، شاعر جميل قصائد خلابة بالعامية المصرية، يتأثر الفنان السوري الكبير «جهاد سعد» بفيض الإحساس في قلبه، يعنفه لأنه لا يهتم بما يكفي بموهبته ليسمعها العالم، يقول له الموهبة أمانة، يتحدث جهاد بطاقة خلاقة متدفقة، أقول له: «من أين لك هذا» يقول «كلنا هذا حين نشاء»، وكنا نقصد طاقة وحش الإبداع الكامن فينا. كان جهاد مارّاً بالصدفة، حين لمحه صديقه الإعلامي «أشرف سرحان»، فنادى عليه، التقيا كفيض محبة خالص، أشرف يحتفي بالأصدقاء، ويحتفون به، عرفته في «مشاهدات» كمقدم ذي نكهة إنسانية خالصة يقدم المكان من خلال الإنسان فلا يمجِّد الحجر ولا يلغي دوره في تشكيل خريطة البشر الروحية، معادلة دقيقة وصعبة لم ينجح فيها إلا قلة. ورأيته على الواقع وكأنه على الشاشة، وجه واحد لا يختلف، يسير في الأماكن محبة في الإنسان.. ويصل. تنطفئ الأنوار فجأه، تستمر الجلسة في الظلام. سيارات قليلة تعبر الشارع، تهب نسائم ليلية تلطف حر القاهرة، صوت نباح كلاب بعيد، العم محمد وردة يجلس محتفياً بضيوفه، والضيوف أصحاب بيت... على الناصية.. ناصية القلب. وأقول لنفسي أنك تحتاج أن تكون كبيراً جداً، وشاسعاً جداً، حتى تدرك قيمة إنسان يبيع ورده لم يعد لها مكان. وأفكر أن القاهرة مدينة خالدة، حتى لو انطفأت الأنوار ونبحت الكلاب، ستظل -للأبد- بيتاً عامراً لا تسكنه الوحشة.