هناك لحظات بعد الصحو من النوم، والاستيقاظ شبه الكسول، عادة ما يحب أغلب الناس أن تمر بصمت، ويا ليت العالم جميعه يهدأ ساعتها، هي أشبه بفترة التأمل، ومراجعة الأحلام، والبعض قد يعدها عودة من جوف الظلام البارد، وانعدام الزمان والمكان، الغاية أن تلك اللحظة يحب على الإنسان أن يجعلها لنفسه فقط، ولا يرغب أن يشاركه أحد فيها، وهي تترادف ولحظة ارتشاف أول قطرة من القهوة الساخنة، حيث تجمد العين، وتسافر الروح، وحده الجسد يبقى جالساً دون حضور،اللحظات تلك من أجمل لحظات الصباح، وهي التي قد تحدد مسار اليوم، فإن مرت بهدوء وكما تهوى، سارت ساعات النهار بانسيابية، وكلك أمل، ولا تعدم فعل الخير، والبشاشة في وجه الآخر، وقد تغلب عليك روح الفكاهة، لكن لو أن الشغالة فجأة فجرت في وجهك المكنسة الكهربائية، وظلت تعوي في البيت، دونما أن تلتقط شيئاً، كظاهرة صوتية بغيضة، أو ظلت الشغالة «تومي تقلي الأندومي» وعبقت رائحة البيت بذاك الشواء، وتلك الأبخرة من بهارات الشرق البعيد، حينها تود لو قدرت أن تجدع أنفك، لأن الحساسية بدأت تتغلغل إلى ثنايا الدماغ، أو أن سهيلة تخلت عن رومانسيتها، وشغلّت السيشوار، وبات يحنّ عليك حتى سخنت أذناك، ووقف شعر رأسك، وهي خبر خير أمام المرآة، ومستمتعة بترديد أغنية قديمة لنانسي عجرم، لا تمل منها، أو وأنت جالس ساه تنظر لرائحة القهوة كيف تتحول إلى مارد من بخار وضباب، وتتراقص أمام عينيك، وتتخيل أماكن لشرفات على بحور العالم أو حدائق توهبك رائحة العشب والخضار، تغافلك الحور الصبية، وتغمس يدها في ذلك «الماغ» المشتهى بسخونته، وتفحمّ بالصوت العالي، والبكاء المُر، رافعة أصابعها المحمرة، والدموع تُخَرّس خدودها الممتلئة، والتي لا تعرف كيف حدث هذا، وكأنها تريد أن تقول بتأتأتها أنت وتلومك، فتفز، قافزة معك لحظة التأمل، ومطيّره حمامة القلب نحو ضجيج اليوم المبكر، أو وأنت مندمج في السباحة الماورائية في الملكوت، مبرّقاً بعينين شبه مغمضتين، تنشد السلوى، وتنشد السكون الأبدي، تطارح أفكارك الشكوى والنجوى، فيقوم توأم الحور منصور، ويدخل أصبعه بين النظارة وعينك، فيدميها كما أبكيت عين أخته، ولأن أصبع الصغير يشبه القلم المبري، وعادة يكون مالحاً، فستشعر حينها، وكأن أحداً ذرّ ملحاً فيها، فتغيب عن الوجود، وتتهامل العين، وتصبح جمراً، وهو يضحك، وأنت لا ترى منه إلا غبشاً من ظلال، ضائعة منك لحظات التأمل والسكون الباردة!