أجمل الأعمال الأدبية تلك التي تسحبك بكل هدوء ولطف.. لترمي بك في أعماق ذاتك، كتلك الروايات التي تتوهم في البداية أنها تخص آخرين، فيما هي تعنيك أنت بالذات دون غيرك، الروايات التي تصفعك وهي تضحكك من مواقف أبطالها. أجمل الأعمال التي تحجز لها مكاناً في عقلك، مستفزة قناعاتك السابقة، هذا النوع من الأعمال لا يمكن الحصول عليه بسهولة، كما أن قراءته ليست بالسهولة المتوقعة، إنها تستدعي قارئاً صبوراً متأملاً باحثاً عن معنى الحياة ومغزاها. القارئ الحقيقي هو ذلك الشخص الذي يدرك جيداً أن الأعمال التي تعرض الاختلافات الإنسانية، إنما تقربنا بشكل كبير بعضنا إلى بعض، وتوضح لنا كم نحن متشابهون رغم كل القشور التي ندعيها ونتباهى بها بعضنا أمام بعض. القارئ الذي لا ينأى بنفسه ومجتمعه عن كل ما يقرؤه، هو القارئ الفطن الذي يريد أن يستخلص الحكمة والمغزى من وجوده عبر قراءة أعمال الآخرين والتأمل في حياتهم. في قراءة، أخيرة، أعادت إليَّ ذكرى قراءات سابقة مشابهة لها في التأثير، استعدت فكرة العبث والوهم الذي يركض وراءه الناس في سباق نرجسي للحصول على التميز، لكي يصبحوا أكثر ثراءً وأشد حظوة وأعلى مكانة وأقوى نفوذًا.. وغيرها من صيغ المبالغة المحمومة التي تستحوذ على اهتمامهم، وهم في هذا الطريق الدامي يفقدون الكثير من إنسانيتهم. رواية لقيطة إستانبول للروائية التركية إليف شافاق، من ذلك النوع الذي يخبرك عن أناس يمضون في طرق كثيرة بإصرار على أنهم متفردون ومختلفون، وفي أثناء رحلتهم يصرون على اختلافهم وتفردهم، بل وعداوتهم لأناس آخرين لهم كذلك طرقهم التي يسيرون فيها معتقدين كذلك أنهم متفرِّدون، بينما الحقيقة أن طرقهم متشابهة، بل ومتشابكة حد التطابق. هكذا تعتقد وأنت تقرأ هذه الرواية، وهكذا سيعتبر أغلب من قرأ العمل، لكن القارئ المختلف من سيجد نفسه وسط العمل وكأنه كتب له، ليكشف نفسه في قصص الآخرين، في ثنايا انكساراتهم التاريخية وأحزانهم الآنية، سيكشف لأي درجة تتشابه الحكايا وتتشابك المصائر وتتطابق النهايات، حيث الطرق المتفردة والتميزات والأنساب الخالصة، إنما هي أوهام يصنعها الناس بإصرار، وبكل جهل.