الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سعادة في خريف العمر

سعادة في خريف العمر
20 مارس 2014 21:38
السؤال التقليدي الذي يتلقاه الصغار ماذا تحب أن تعمل عندما تكبر؟ كان مثل السهام حين يتم توجيهه إليّ، حيث أجد من كل الأطفال والفتية والفتيات إجابات متنوعة، فهذا يريد أن يكون طبيباً، وذاك يطمح إلى أن يكون مهندساً، وهذه تتمنى أن تصبح صيدلانية، وتلك تحب أن تعمل معلمة، وهكذا تتنوع وتختلف الأمنيات، بينما أنا لا أرغب في شيء بعينه ولا في وظيفة محددة، وأرى أنني فتاة عادية ليس عندي مميزات، وليس لي طموح في الحياة، وأترك الأمور تسير حسبما ما أراد الله لي، فلا أهتم بالمستقبل وما يحدث فيه فهو في النهاية غيب، وعندما يأتي يكون لكل حادث حديث. نقطة فارقة حتى عندما حصلت على الثانوية العامة كان السؤال نفسه، هو سيد الموقف تلقيته من مئات الأشخاص من أسرتي وعائلتي وأقاربي وزميلاتي: أي كلية تعتزمين الالتحاق بها؟ والغريب أن هذه المرحلة الدراسية نقطة فارقة في حياة كل إنسان، ومع ذلك لم يكن هذا الإحساس عندي ولم أجدني أيضا راغبة في استكمال دراستي الجامعية في نوع معين من العلوم فكلها عندي تتساوى، ولا يفضل واحد على غيره وعندما وجدتني أسرتي تركت نفسي للهواء مثل الريشة يذهب بي إلى أي مكان، بدأوا يشيرون عليَّ ويقترحون من تلقاء انفسهم لكن كلا منهم يتحدث من وجهة نظره، ويقدم رؤيته حتى عندما يجتمعون فإنهم يختلفون هذا يريد عكس الآخر، وكل واحد يدافع عن رؤيته، البعض يرى أنني عاقلة وأستفيد من آراء الآخرين، بينما يرى البعض الآخر أنني سلبية وغير مهتمة بمصلحتي. لم اشغل نفسي بهذه القضية حتى لو وصل الأمر إلى الاكتفاء بهذا القدر من التعليم والمكوث في البيت بجوار أمي وإخوتي، ولا مانع عندي من ذلك، ولكن في النهاية بعد اتفاق الجميع وقع الاختيار على أن ألتحق بكلية الآداب، ولم يكن لهذا الاختيار أساس ولا منطق إلا لأن الكلية هي الأقرب على الإطلاق لمنزلي، وهذا يجنبني مشكلة السفر والإقامة والاغتراب إذا التحقت بجامعة أخرى، ووافقت على ذلك، وعندما بدأت الدراسة كان أمامي اختيار آخر لا بد من حسمه، وهو أن الكلية تضم عشرات الأقسام، ويجب أن أحدد قسماً بعينه، ووقعت في حيرة هل أدرس الجغرافيا أم التاريخ أم اللغة العربية أم اللغات الأجنبية، وهناك علم النفس والفلسفة؟ فبعدما اعتقدت أنني تخلصت من حيرة الاختيار وجدت أمامي اختياراً آخر يضعني في حيرة، وقررت هذه المرة أن أختار لنفسي على أساس ما سمعته من الطالبات في الكلية بأن قسم الدراسات الاجتماعية هو الأسهل، وليس به أي تعقيدات فقلت لنفسي المهم الشهادة، وكله في النهاية سيكون متساوياً. زواج غير موفق أربع سنوات أخرى من عمري مرت أيضاً عادية بلا أحداث، أو مشاكل ولا حتى أحداث سعيدة لأعود بعدها لأقبع في البيت بلا عمل، وأساعد أمي في شؤون المنزل، وأشاهد التلفاز، وشعرت بالفراغ الشديد، ولأول مرة في حياتي أريد أن اخرج من هذا الملل، لكن وبدأت أبحث عن عمل لكن تخصصي الدراسي غير مطلوب، فكانت المسألة صعبة، وبعد عام كامل جاءتني فرصة للعمل معلمة في مدرسة ثانوية كأخصائية اجتماعية، وسعدت بهذه الوظيفة لأنها شغلت وقتي، وكذلك اصبح لي راتب شهري جيد أنفق منه على نفسي واحتياجاتي وشعرت بذاتي، ولكن الحدث الأهم في تلك الفترة هو أن أحد زملائي في الجامعة يعمل معي في المدرسة نفسها، ولم يكن بيننا أي تعامل من قبل وفوجئت بأنه يريد أن يتقدم لخطبتي، ولا أعرف عنه أي معلومات إلا ما ذكرت لذا عندما حضر إلى بيتنا تركت الأمر لأسرتي لتتخذ القرار، ووافقوا عليه ،ولم يكن لي اعتراض فقبلت. لم يكن لي أي تدخل في الاتفاقات وإجراءات العرس ،فقد تولى أبي وشقيقي الأكبر هذه المهام كلها، وتم تجهيز شقة الزوجية، وتحديد حفل الزفاف، ولم أشعر بالسعادة التي كنت أتوقعها والأمور تسير عادية، وانتقلت إلى بيت زوجي، وأنا أظن أن يكون بيننا تفاهم كبير للتقارب العمري والعلمي والدراسي، لكن ما خفي كان أعظم، فقد فوجئت بشخصية معقدة تخفي صفات لا يمكن التعامل معها نجح في إخفائها عن الناس، فهو حاد وعصبي المزاج، ولا يعرف التفاهم، ويفرض رأيه، ولديه حب السيطرة، والتشبث بالموقف ووجهة النظر حتى لو عرف، واقتنع بأنه على خطأ، ولا يتراجع بل يزيد في المغالطة حتى لا يظهر أنه مهزوم وفوق هذا وذاك يريد أن يستولي على راتبي كله، ولا يبقي لي أي مبلغ لشراء حاجياتي الضرورية، وليته يستولي عليه لينفقه على بيتنا، ولكن ليدخره فهو بخيل جدا، وقد علمت أنه عاش حياة قاسية وأسرته فقيرة، وعانى الأمرين، وتولى مسؤولية الإنفاق على نفسه خلال مراحل التعليم، ولديه عقدة نفسية من الفقر، ويخشى أن تعود إليه الأيام القاسية واللحظات الصعبة رغم تحسن ظروفه وتغيرها تماما. تجربة قاسية وجدتني أعيش في سجن أقضي عقوبة بلا ذنب وأنا الأخصائية الاجتماعية، وهو الذي درس معي علم النفس، وفشلت في علاجه أو إقناعه بخطأ تفكيره فاتهمني بالتبذير والإسراف واللامبالاة، وحاولت عبثا أن أقنعه بأن يترك لي بعض راتبي لنعيش منه فرفض، واعلن من البداية حالة التقشف وربط الأحزمة، وأنا في الواقع أجد تلك حالة مرضية عجزت أيضا عن التعامل معها أو إيجاد حل لها، وبدأت المشاكل تعرف طريقها إلى بيتنا مبكرا، بل واستفحلت خلال الشهور الأولى، وتحملت أولاً لأمنحه فرصة لتصحيح أوضاعه، وثانياً خشيت من القيل والقال إذا تم الطلاق بهذه السرعة وحافظت على أسرار البيت إلى أن فاض الكيل، ولم اعد قادرة على التحمل وحتى أسرتي لم تصدق ما أخبرتهم به، وتعاطفوا معي، ووجهوا لي اللوم على أنني كنت صامتة خلال تلك الفترة مع هذه المعاناة. وقبل أن يكتمل العام عدت إلى بيت أبي أحمل لقب المطلقة، ومع أنني لا ذنب لي فيما حدث، لكن لم أنج من الألسنة التي حملتني المسؤولية ووجهت لي اللوم، فلم أجد الإنصاف من قبل، ومن بعد فكرت في أن اترك العمل كي لا أراه كل يوم أمامي، ووجدت حلا أفضل بأن أنتقل إلى مدرسة أخرى، وكانت المرة الأولى التي أتخذ فيها قراراً، ولا أترك الاختيار للآخرين، فقد حسمت أمري بألا أكرر تجربة الزواج مرة أخرى، ولن أكون تحت تصرف رجل يتحكم في شأني، ويعاملني كقطعة من الأثاث، وقررت أيضا أن أشغل وقتي بما يجعلني لا أفكر في أي شيء، ولم أجد سبيلا إلى ذلك إلا بمواصلة العلم واتجهت إلى الدراسات العليا، وحصلت على الماجستير، ثم الدكتوراه وإن كنت مازلت أعمل معلمة، ولم أجد فرصة عمل بالدكتوراه، لكنني شعرت بذاتي، وكنت أفضل حالاً من الحياة الزوجية التعيسة، التي عشتها مع طليقي في تجربة قاسية. فراغ كبير ما آلمني هو رحيل أبي وأمي خلال هذه السنين، وتركا فراغاً كبيراً في حياتي خاصة وقد تزوج إخوتي وأخواتي، وبقيت وحيدة في البيت، وهذا ما جعلني أواجه ضغوطا شديدة بالحديث عن ضرورة الزواج، ويرون أنه لا يجوز لمطلقة أن تقيم وحدها، وتخطيت الأربعين من العمر، وليس من اليسير أن أجد زيجة مناسبة وكانت الصدمة عندما جاؤوني بعريس غير ملائم من جميع النواحي، فهو يصغرني بعدة سنوات، وبالكاد يعرف القراءة والكتابة، ووظيفته عامل نظافة، ولا يمكن أن يكون بيننا أي نوع من التفاهم، وقد تأكدت من اللقاء التعارفي أن الزيجة مكتوب عليها الفشل من قبل أن تبدأ، ولست مستعدة لتجربة فشل جديدة، وأنا في هذا العمر الذي لم يعد يسمح بذلك، وأصررت على الرفض التام وتحديت إخوتي، ووقفت في وجوههم، وأنا على حق فتراجعوا لأنهم مقتنعون بوجهة نظري. اشتريت شقة من راتبي وانشغلت في تجهيزها، وعانيت الأمرين من العمال وتصرفاتهم وعدم التزامهم بالمواعيد حتى كادوا يصيبونني بارتفاع ضغط الدم، وهم يماطلون ويتلكؤون، وأنا غير قادرة على التعامل معهم بشكل حاسم، وجاء الفرج عندما حضر مقاول بناء، ووعدني بأن يتحمل عني هذه المهام، فهو يعرف كيف يتعامل مع هذه النوعية من العمال، وبالفعل قام بالمهمة خير قيام، وشعرت بالارتياح لتصرفاته واعتقدت من أسلوبه أنه مهندس، وليس مقاولا، فهو يجيد التحدث بلغة راقية وعلى وعي بكل ما يدور ويتابع الأحداث المحلية والعالمية، وله رؤية تحليلية فيها، وفوق هذا وذاك طموح وبدأ تأسيس شركة للمقاولات، ولاحظت فيه شهامة ظاهرة ومواقف رجولية بالفعل. لحظات فاصلة من خلال اللقاءات المتتابعة أثناء العمل بشقتي حدث بيننا تفاهم وتقارب، وشعرت نحوه بارتياح، لكنه كان مترددا في مفاتحتي بأمر ارتباطنا، وأدهشني أسلوبه وهو يحاول أن يوصل إليَّ رغبته فلم أتردد في الموافقة، ورحب إخوتي بهذه الخطوة، ورفض أن نتزوج في شقتي، وقال، إنه الرجل وعليه أن يتحمل مسؤولياته، وكذلك تحمل النصيب الأكبر في تكاليف الزواج، وحانت ليلة الزفاف وعند عقد القران اكتشفت المفاجأة المذهلة زوجي «أميّّ» لا يجيد القراءة والكتابة، ولم ينل أي قسط من التعليم حتى أنه لا يعرف كتابة اسمه، وقدم إبهامه ليضع بصمته على عقد الزواج عندما طلبوا منه التوقيع، وكانت صدمة لي أن يكون بهذه المواصفات، وعلى هذه الدرجة من المعرفة، ولا يقرأ ولا يكتب. ولم أتراجع طبعا في هذه اللحظات الفاصلة، والرجل لم يكن مخطئاً، ولم يخدعني فأنا لم أسأله عن تعليمه وتعاملت معه بتوقعاتي لا بالمعلومات وقررت ألا أتعجل ولنترك الحكم للأيام، وما ستسفر عنه وتمت الزيجة وحديث الناس الذين لا يعجبهم العجب يلومونني على أنني الحاصلة على الدكتوراه كيف أتزوج من رجل أمي. ألقيت ذلك وراء ظهري، ولم ألتفت إليه وكانت المفاجأة الأكبر في حياتي كلها وجدت زوجي رجلا مثاليا يقدرني ويحترمني ويسعى لإرضائي وسعادتي بشتى السبل لم أصدق نفسي، وخشيت أن أكون في حلم جميل أخاف أن أستيقظ منه فما يحدث عكس كل المألوف، وكل ما أستطيعه أنني أتفاني لإسعاده، لكنني غير قادرة على السباق معه فهو يسبقني إلى ذلك. نورا محمد (القاهرة)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©