‎اليوم.. حين أعد البلاد التي زرتها، ومئات المدن، أخطئ في العد، بلدان، ومدن بعضها أحببته وتمنيت أن أكرر الزيارة، بعضها كانت قطيعة دائمة معه منذ الوهلة الأولى، بعضها أحنّ له بين الحين والحين، بعضها الآخر زرته أكثر من عشرين مرة، ولا أملّ أو أكلّ، بعضها تشبه أكل المستشفيات، مفيد لكنه غير شهي، فتبقى علاقته بك من بعيد لبعيد، ولا تراه إلا لحاجة عمل أو مؤتمر أو تجبرك ظروف الزيارة لسبب ما. خلال هذه الرحلات على مدى العمر القصير، ركبت طائرات خاصة، ودرجات مختلفة، وقطارات شحن، وقطارات درجة أولى، وسفناً عابرة، ومرات في أجنحة بحرية، وسيارات فاخرة ليموزين، لا أقدر أن أركبها في بلدي، وسيارات خربة، أكلت في مطاعم فاخرة جداً جداً، قيمة البخشيش الأدنى لا يقل عن ألف درهم، فما بالكم بطاساتها وصحونها وكؤوسها، وخواتم من تجلس أمامك، وعطورها، والفرو المعلق في تلك الخزانة المحروسة، أكلت على رصيف المدن «ساندويتش حافاً» وزجاجة كولا بالحجم العائلي، أو على مقعد يترجرج في مطعم شعبي على الطريق السريع، تنقلت من فوق إلى أعلى المساحات التي تسمح بها الحياة، ونزلت إلى أسفل الدرجات، نمت مرة في حديقة عامة في اللاذقية، وسكنت مرة في منزل خرافي على نغم موج البحر، جربت أكل الشعوب وعاداتها، استطعمت بعضها وأكثرها، أقلها هو ما عافته نفسي، جلست في بيت عائلة أثيوبية، وسكنت عند أسرة إنجليزية، وأسرة فرنسية، وبيوت الطلبة، وفنادق فخمة للغاية، كانت في غرفتي فوق الـ 21 فوطة بمختلف الأحجام. أنا هنا لا أكتب.. فقط أحاول أن أتذكر ما مرّ معي خلال تلك الأسفار، أجمل أكلة أكلتها في جبل جنوب فرنسا في «أكس بروفانس» عند عجوز يهودية مغاربية، كانت تقدم لي فطور شهر رمضان بيدها، وأسوأ أكلة أكلتها على مركب في مدينة هونج كونج، يومها رأيت كيف يكسرون مخ القرد، أكلت في بيوت مدن كثيرة في العالم، كان شهياً ودافئاً مثل أهله. لم تكن عندي يوماً مشكلة في تذبذب الحال، واختلاف مستوى الأكل، والمركب، والمنام، لكنني كنت أحرص أن أجد مناماً مريحاً آخر الليل، وآمناً، وأجد حماماً نظيفاً يجعلني أغفو في مسبحه، وأستمتع ببرودة سيراميكه وبلاطه اللامع ورائحة فوطه. أحببت مدن البحر الأبيض المتوسط لدرجة العشق، أعشق المدن التاريخية، أشعر أنها كالجدات الدافئات أو كالأمهات الطاهرات، أكره المدن الزجاجية والتي يمكن أن تبيعك أي شيء حتى روحها أو مخدع ضناها.. وغداً نكمل القراءة في المدن التي علمتني، ولم تكلفني غير تذكرة.. وحقيبة سفر! amood8@yahoo.com