رأيت رجلاً سعيداً، فحدثني: هكذا هي السعادة صعب ألا تظهر تباشيرها على الوجه، كما الحزن لا يمكنه أن يجعل الوجه متورداً، وتلك السحابة السوداء أو الرمادية تظلل الرأس، وتجثم على الصدر، ولأن السعادة مفاتيحها صغيرة، يمكننا أن نجدها في كل جيب، ونعثر عليها في الطرقات، لكننا نصر على البحث عنها، ونحن مغمضي العين والقلب: سعادتي متجددة، متواصلة، بعد أن نجوت من الحرب التي خضتها صغيراً، ولم أكن أعرف ما هي الحرب، قيل لي يومها دفاعاً عن الوطن، وفي سبيل التحرر، كنت صغيراً، ولم أكن واعياً بدوري الوطني، ما أعرفه ولا أريد أن أتاجر به، أنني حملت السلاح لأنجو بنفسي من معارك في أوحال الغابات دامت سنوات، قتل أصحابي العشرة، وبقيت أنا ورفيق السلاح الوحيد، اجتزنا السهول والوهاد، خضنا النهر الموحل، وأكلنا كل شيء لنبقى على رمق أخير من الحياة، ثم مشينا لشهور حتى مدينتنا، وحين وصلناها كانت الحرب وقتها قد أوقفت طبولها، كنت حينها سعيداً بلا حدود، وحين دخلت بيتي الصغير، ورأيت أمي وأبي أحياء، سعدت أكثر، وحين أتذكر أنني ما زلت أمشي بصحة، وعلى قدمين صلبتين، أبقي على إحساسي بالسعادة الدائمة. وهكذا بقيت منذ منتصف السبعين وحتى اليوم أعيش سعادة متواصلة، وقناعة أبدية، تتساوى عندي الأمور، وحين أجد صحناً واحداً لعائلتي، أتذكر بسعادة أنني بت جائعاً لأيام وليالي، وحين يقرصني المال وقلته، أتذكر بسعادة أني ما زلت سليم البدن معافى، وهكذا دائماً أجد مفتاحاً صغيراً للسعادة في جيوبي، تعلمت الإنجليزية فأضفت سعادة أخرى على حياتي، تزوجت ورزقت بطفل، ففرحت وسعدت به، وربيته فكان مصدر سعادتي، تعلم ونجح، فكدت أطير من السعادة، أرسلته للدراسة في الخارج ليتعلم ويعلم نفسه ويعتمد عليها، فكانت في داخلي سعادة لا يعادلها شيء، يتصل بي، ويخبرني عن تفوقه، وعن أشيائه الحميمة، فأقول لقد كبر الولد، وأنا سعيد به، تخرج الولد واشتغل، فصارت أموره تسعد أمه وتسعدني، أقول بيني وبين نفسي أحمد الله أنه لم يقارب المخدرات، فأفرح وتكاد السعادة أن تدمع عيني، تزوج الولد فسعدت به وباختياره، سكن معنا في البيت فأضفى عليه لمسة من السعادة جديدة، رزق ببنت صغيرة، هي اليوم سعادتي الكبرى، شخت مع عجوزي وأنا سعيد بقناعاتي وحبي للخير. لقد لقيت السعادة منذ أن فتحت بابها الواسع، وانتشلتني من وحل الغابات وحربها، وقالت لي: دونك.. أقبلت الحياة!