زلّ قلبي.. وتطايرت خفقاته علناً في الدروب حين رأيتها تعبر الجسر المعلق بين القمر والشمس. ومن اختلاط الضوء بالضوء، رأيت صورتها وجهاً يفوحُ بالحرير ويبثُّ في الدنيا موسيقا الأمل. أشارت إليّ، ومن يدها تدلّى إصبع الشفقة، ومن شعرها ماجَ بحرٌ من كحل الليالي الآسرة. ثم زلّ عقلي، واختلطت في رؤاي خيالات رقص، وصهيل أحصنة بأجنحة بيضاء، وحاصرني دويّ أجراس معلقة بخيوط من البرق. وكانت تلك مجرد بداية لما ظننته السحر. حين ارتفعت خطاي شبراً عن الأرض وتلعثم فمي يتمتمُ بقصيدة أولى. وحين سالت أول دمعة من قلم النداء، ووجدتني الشريد المطارد من ورقة إلى ورقة، تخنقني النقطة في آخر السطر، وترميني النهايات في مدار مجنون. زلّت يدي.. رفعتها في الوداع شراعاً، وليتها كانت المرساة. ها أنا من بحر لبحر أخوض في شوك الأسئلة. يراوغني النقيضان حين ينقلبان على بعضهما في معاني الحب، ثم يختفيان عندما تغصّ القصيدة بنارها، وتُكمم حروفها خشية الكشف. ولأن لي في العشق حمّى، ما صافحت أحداً إلا مرتجفاً، وما حملت الريشة لأرسم بها أفقاً، إلا وتداخلت الخطوط على ألوانها وأمتزج الغروب بموج عابث وصخب. وما حملتُ معول البناء لأشيّد قصر أحلامي، إلا وأغراني الشكّ على هدم ما سيصير خراباً. قيدي خيوط ظن، كلما فككتها عقدة عقدة، كلما التفّت على معصمي غيرها حتى أكلتني الحيرة. وما من علاج لسقمي سواها. ها هي الروح زلّت، يوم أن أطلّت نجمة الحب تومض في وحشة الأيام وتقشع من عيوني ظلامها. وها هي الحياة لها فم يبتسم كلما ضحكت فوقنا غيمة البوح، وتناثر من ثيابها مطر المستحيل. في البداية، سنكون التقينا أولاً روحاً بروح، لكن ذلك لا يروي سوى التنهيدة المرّة. وسنكون التقينا قلباً بقلب حين نفطنُ لخدعة المسافة، لكن ذلك أيضاً لا يروي سوى التوق. ولكن لو جلسنا إلى ذاتنا ومن حولنا شموع العزلة وتعانقنا ذرّة ذرّة. ساعتئذ، ترقص لنا الحرية مختالة في حرير اللقاء، وتهجرنا الجيوشُ تطحن بعضها في الفيافي البعيدة. ولا يبق لنا سوى أن نتلاشى في فضة الرحيل إلى مكاننا الأول، المكان الذي لا فرق فيه بين الأنا والأنتِ. المكان الذي إذا هتفنا فيه بصوتين ضدين، عاد الصدى واحداً وصارت كلماتنا واحدة.