متولهاً للحرف.. خرجتُ من الظلام أزحفُ وشمعتي فوق رأسي. كلما فتحتُ كتاباً تطاير في وجهي نورهُ وانزاحت من طريقي جبالُ الشك. وكلما فركتُ القواميس نبتت لي في العقل مليون شجرة جديدة. وها أنا في كل يوم، أطحنُ الكلمات وأنثرها فوق اسمكِ، موقناً أني بذلك أسقي ثمرة الخلاص، وأحمي طلوع برعمها في نشيد الليالي المقبلة. متأبطاً خرائط النور، حملتها في متاهة الظلام وخرجتُ منتصراً بها على الجهل الجديد. حين اقتربتُ من الجدار وجدته وهماً، ويمكن أن يُزاح باليقظة. وحين ابتعدتُ عن الماضي، لفّني صداهُ، ونطقتْ أغانيه على فمي في كل عيد. ها أنا بخيوط نورٍ أبني قصوراً لا تُزلزلها الظلال، ولا تدخلُ من بابها إلا وجوه من أخلصوا في الحب وتلاشت أرواحهم في اشتعال لياليه. قاب قوسين أو أدنى من لمس الحقيقة، لكنها تنأى كلما اقتربتْ يدي لتقطف زهرها. حملتُ الكتاب لأنجوا من وهن أزمنتي، وما عرفتُ أنه أثقل من الصخر. ورفعتُ الكلمة في ليل الوحشة كي أرى الطريق غداً، وما عرفتُ أن الكلمة كانت هي نفسها الشمس، إلا حين احترقتْ يدي بجمر النقيضين، ونبتتْ على خطوتي أشواك الأسئلة. فاذا جئتكِ مدمياً نازفاً وعلى فمي مليون تمتمةٍ غريبة، لا تقولي هذا غناءك يوغل في النشاز، وتمهلي ريثما يعود لساني طليقاً ويذوق لأول مرّة لذة أن ينطق باسمكِ في العلن. إنهم يتكاثرون قرب أحلامي.. يشدّني الجبانُ لكي أنحني كلما ارتفعت عصا الطاعات، ويدفعني الخونةُ أمامهم كي لا أرى طعنة الغدر. وكم مدّ لي المندسّون كأساً من عسل فيه تنامُ لمّاعةً قطرات سم. وراوغني الدهاةُ بكلامٍ يدورُ في الرأس دوران أفعى ويلسعُ في الضمير. ونصحني العميانُ أن لا أنظر للبعيد لكي لا تصاب حشاشتي بالشوق. وقالت لي الموجة: إن دخلت البحر بلا بوصلة تضيعُ نجومك ويستوي قمر ارتحالك في العدم. وقال لي البحرُ: خذني قطرة في بكاء عينيها. لكنني ما حلمتُ الا بوجهكِ طالعاً من نبعٍ سماويّ، وما همّني يوماً لو تغيّرت الجهاتُ أو تداخل شرقها في غربها واختصم الناس على السبب، وما همّني لو اقتتل اللاهثون على السراب وماتوا عطشاً في جفاف المعاني. يكفي أنني أحلم، وأن تكوني أنتِ في طرف الدنيا معجزة تضاهي قيام الكون كله.