يختصر أدونيس في رسالة أخيرة كثيراً مما يمكن أن يقال في أنسي الحاج: موقعه بين زملاء الحداثة وروّادها، وفي تعامله مع مشروعها الثوري. وفي خطته الشعرية ولغته وأسلوبه. يخاطب أدونيس أنسي الحاج قائلاً: «أنتَ أنقانا، قلتُ لك، مرّةً. وأكرّر هنا قولي هذا. وفيما أخذتَ تقتحمُ بقوةِ هذا النّقاء، جميعَ أشكالِ العَسْفِ، كنتَ تنحتُ في جسد الشّعر شامةً آسِرةً لطفولةٍ لا ينفد نِسْغُها». لكن المفارقة هي أن أنسي الحاج نفسه الموصوف بالأنقى يقول عن هذا العالم (إنه بلا نقاء). هكذا هو أنسي الحاج: جمْعُ مفارقات واختراقات لغوية وصورية، وصوتُ رفضٍ عالٍ، دلَّ عليه ديوانه الأول ذو الصرخة: (لن)، مستفزاً ومشاكساً، ما جعل أدونيس، صديقه الأقدم وزميل التأسيس في مشروع مجلة (شعر) وكتابة قصيدة النثر، يصف حداثته بالقول: «إذاً، داعبتَ الحداثةَ كما لم يداعبْها أحدٌ في زمنِكَ، ورسمتَ لها وَجْهاً بحبْرِ حَدْسٍ خلاّقٍ، يبدو كأنّه نوعٌ من الجنون الضّاربِ في غياهبِ التعقُّل». ذلك الجنون في غياهب العقل هو ما خلق قصيدة أنسي الحاج ورسم صورته على الخارطة الشعرية للحداثة. عام 2010 تحتفل بيروت برواد (شعر) ومؤسسيها. وثمة صورة تذكارية.. أدونيس في أقصى الصورة متباعداً بجسده كما هو في المشروع نفسه، يختار قصائد ديوان الشعر العربي من التراث فيما يصرخ المؤسسون: الشاعر لا تراث له! أنسي الحاج يبدو أكثر حيوية، هكذا كتب قارئ تفاعلي مشاغب معلقاً. أما الآخرون فؤاد رفقه وشوقي أبي شقرا وأدونيس فبدوا وكأن الزمن هدّ حيلهم! أنسي الحاج في كلمته بالمناسبة يعترف بتباعده وسط الجماعة: «كنتُ في ذلك الوقت على الهامش كعشبةٍ غريبة»، ولايرى مثلهم أن هناك تنافساً بينهم، وغياباً لمحبة بعضهم البعض، يقول أنسي إنهم لم يكونوا شعراء متنابذين. هو وحده بلا تلاميذ ومقلدين، لأن طريقه له وحده، وتحولاته في فضاء قصيدة النثر حرة لا تُلزم أحداً، ولا تبشر بغير القصيدة. لكن أثره سيظهر لا في قصائد الديوان، بل في مقدمة (لن) التاريخية التي حظيت بما لم يحظ به شعره نفسه من الاهتمام والمناقشة، كونها البيان النظري الأول لمشروع قصيدة النثر، ولو بالاحتكام لقوانين ومزايا واشتراطات ضمتها دراسة سوزان برنار الشهيرة عن قصيدة النثر، وظهر أنسي معرفاً بالكتاب، متحمساً للاشتراطات لاسيما الكثافة والإيجاز والمجانية. بعد سنين في لقاء إذاعي سوف يبدي أنسي ندمه على تحديده تلك الشروط لقصيدة النثر، ويتمنى لو أنه لم يفعل ذلك، ففي الشعر (لا شروط ولا قواعد، ولا معنى للمقاييس المسبقة) كما يقول. هو ذاته تطور من ديوان لآخر وتبدلت المؤثرات الفاعلة في شعره من نشيد الإنشاد حتى السورياليين. غادرَنا أنسي الحاج إلى عالم أكثر بياضاً ونقاءً، تُمحى فيه الشخوص وتظل القصائد: «اتخذتُ الحب عوض كل شيء../ فماذا صنعتُ بالذهب وماذا فعلتُ بالوردة؟/ العالم أبيض/ المطر أبيض/ الأصوات بيضاء/ الحبر أبيض والأوراق بيضاء».