وقفت كثيراً أفكر في اللحظة القاتلة التي ألقت فيها تلك الصغيرة بنفسها من الطابق السابع عشر لتلقى حتفها سريعاً أسفل ذلك البرج الشاهق، كيف أمكنها فعل ذلك، بدا الحادث بالنسبة لي غير معقول أو غير منطقي، يقول محرر الخبر « إن فتاة آسيوية في الرابعة عشرة من عمرها لم تتحمل قسوة الملاحظات التي وجهها لها والدها لأمور تتعلق بالدراسة والمدرسة، فما كان منها سوى أن قذفت بنفسها من ذلك العلو الشاهق، كيف ؟ وبهذه البساطة ؟ وهل يمكن أن تكون ملاحظة قاسية سبباً في انتحار طالبة صغيرة ؟ قال أحدهم معلقاً على الخبر« لقد دفعت حياتها ثمنا لغباء أبوي أحمق» هل يمكن أن نتقبل هذا التعليق كما هو ؟ دون أن ننظر فيه بجدية وعقلانية أيضاً؟ مساء طلب مني شاب عربي المساعدة في الحصول على وظيفة هنا في الإمارات وإلا فإنه كما قال قاب قوسين أو أدنى من الانتحار، إنه ما عاد يطيق الحياة في بلده وهو يكتم دمعاً يكويه ليل نهار لكنه صابر على مضض، قلت لنفسي الانتحار مرة أخرى؟ ما حكاية الناس معه ؟ أحدهم يريد أن يأتي لدبي هرباً من أوضاع بلاده وإلا فسيقدم على الانتحار، وفتاة تقيم في دبي تنتحر في غمضة عين؟ هكذا - كما جاء في تفاصيل الخبر - لأن والدها عنفها بسبب الدراسة ! ما بين الموت والحياة، وفي لحظة القهر والتفكير في الانتحار هناك لحظة أخرى، لحظة فارقة، حاسمة، وغير مرئية أو محسوسة ولا يستغرق عيشها سوى ثوانٍ، إنها لحظة القرار أو لحظة الفرار، وهما نقشان على وجهي العملة نفسها، فرت الطالبة من مواجهة تعنيفات الأب اليومية ربما، فهذا القرار المهول والمجنون لم يأت عفو اللحظة، إنه يشبه تلك العبارة التي تتحدث عن القشة التي تقصم ظهر البعير، تلك المواجهة التي حدثت قبل الانتحار كانت القشة، التي لم يحتملها قلب الفتاة، ففرت إلى الفراغ، إلى البعيد، إلى الخلاص، إلى حيث لا تسمع صوت أبيها وكلماته المعنفة والقاهرة ، فإذا بها تدخل في صمت أبدي لا عودة منه ؟ سألت بصدق لحظتها: بم يفكر الأب الآن ؟ لحظة القرار التي هي لحظة فرار حقيقية من زمن ومن موقف ومن حالة نفسية ومن وضع مادي ومن مواجهة ومن .... إلى زمن مختلف وموقف آخر وحالة مغايرة ووضع أفضل ربما .. نعبرها جميعاً وربما كل يوم، وإن كان عبور بعضنا يختلف عن عبور الآخرين، عبور آمن، عبور بطيء، عبور غير ناجح، عبور متردد، متعثر، وربما عبور فاشل أحيانا، أظن ذلك أفضل بكثير من عبور في الفراغ إلى حيث لا عودة، وحدها نوعية البشر والمجتمعات واللحظة التاريخية الفاصلة التي يحيونها من يحدد ذلك، ولو نظرنا إلى الخريطة اليوم يمكننا أن نستنتج نوعية الهروب الذي يفكر فيه شباب كثر في العالم العربي من أوطانهم إلى أماكن أخرى بحثاً عن الأمان والحياة والكرامة ! الهدف من الهروب ليس هو المهم، الأهم أن نصل إلى تلك النقطة الحاسمة دون أن نعبر الفراغ القاسي، فراغ اللاعودة ! ayya-222@hotmail.com