وسط الاشتغالات التي لا تنتهي ، يأبى رأسي أن يهدأ لبضع ثوان.. تنهال علي أدق التفاصيل، وعلي أن أفض اشتباكات فوضى الأفكار على طول الخط..هكذا مضى النهار. قد تبدو مصادفة..فقد بدأت نهاري بالتفكير في (آدم) بطل أمين معلوف في رائعته «التائهون». آدم العائد من باريس إلى لبنان وطنه الأصلي الذي غادره سنوات الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي، تاركاً خلفه تاريخاً من العلاقات والأصحاب والأحلام، ذاهباً إلى مكان آخر تماماً لينبت من جديد، معتقداً أنه لن يعود للبلد ولن يهتم بأي شيء فيه لاحقاً، اتضح له حين قابل صديقته القديمة سميراميس أن ذلك كان وهماً حقيقياً ! فآدم المؤرخ الذي يحاول بعث الوجوه والرموز والأبطال من سباتهم الأبدي إلى الحياة والذاكرة والتذكر يعي تماماً كم هي خؤون هذه الذاكرة. آدم الذي جاء مسرعاً بناء على مخابرة هاتفية من تانيا زوجة صديقه مراد الذي لم يره ولم يتواصل معه منذ سنوات بسبب مواقفه التي لم يتفق معه فيها، ورغم ذلك فقد لبى طلب تانيا في الحال، أغلق سماعة الهاتف وحزم حقيبته دون تردد واتجه إلى المطار لأن كمال كان في النزع الأخير وطلب رؤيته، وهنا فإن الموقف لا يحتمل التردد، للذاكرة حساباتها وللصداقة التزاماتها وللموت هيبته التي لا تجابه! هذا ما كان من أمر آدم في «التائهون». مساء وقع ذلك الكتاب اللعين بين يدي، أغراني عنوانه فتناولته وجلست مسترخية لأقلب بضع صفحات تعينني على النوم.. كنت واهمة، الوهم واحد من تجليات العقل حين يتباهى العقل واثقاً بقدراته وجدت بين الصفحات قصاصة هذا ما قرأته فيها: لا ينتهي العشق كما نخطط له أن ينتهي حب بالبساطة الساذجة التي تشبه الانتهاء من تناول الطعام يعني أنه لم يكن هناك حب من الأساس، وأننا كنا نعيش وهماً كبيراً لا أكثر ! الحب كالحرب تماماً من يملك قرار التورط فيه لا يملك أبداً حقوق التوقف عنه ! فإن الحب لا يشبه حضور حفلة تنكرية الحب لا يكون مع سبق الإصرار ولا ينتهي بالترصد لا يأتي حين نتمناه ولا يذهب حين نقرر ذلك ! وانفتحت ذاكرتي دفعة واحدة على عمر من الوجوه والأصوات والأمكنة، وأنا أتتبع وقع أقدام آدم على أرض وطنه بعد غياب طويل. للحظة اكتشفت أن ذاكرتي خانتني كثيراً أو أن الزمن الذي حجب تلك الوجوه التي ما عدت أتذكرها كان بعيداً أو هكذا خيل لي، هناك عمر وسنوات سقطت في المسافة بين زمنين ولحظتين (زمن الانشغال/ اليوم، وزمن الأمس) كأن آدم عاد من اليوم (باريس) إلى الأمس (لبنان) وما من سبيل لتغيير أي شيء، فبين زمن الفراق وزمن اللقاء/ الأمس واليوم هناك فائض مفقود من الزمن، قلما يشعر به فاذا شعر ما عاد بالإمكان إصلاح أي عطب فيه... هي سيرورة الحياة أقنعت نفسي أخيراً وأنهيت يومي بهذه الخلاصة! ayya-222@hotmail.com