شهدت فصولاً من حكايتها عندما تشاركنا العمل في إحدى المدارس الثانوية ذات زمن، في أوقات راحتي كنت ألوذ بها لأنني كنت أجد لديها الكثير من الصدق والطيبة والحكايات، وبطبعي كنت عاشقة للحكايات، لكن أهم ما بقي في ذاكرتي من أمر تلك السيدة قصة كفاحها الطويل لتربية أبنائها وتعليمهم والإصرار على أن يكونوا من المتفوقين، وقد كان لها ما أرادت، فحين تخرجت ابنتها كانت ضمن أوائل الثانوية العامة في الإمارات، ما ضمن للفتاة وشقيقتها دراسة الطب وللأم سنوات عناء وشقاء إضافية، لكنها حكمة الزمن ودور الأهل في أسرنا العربية ! هي أكملت دورها على أفضل ما يرام والأبناء تخرجوا في أفضل التخصصات، وحين انتهى المشوار وقفوا على مفترق طرق، وهنا بدا كأن صراعاً يلوح في الأفق، كنت قد تركت المدرسة ميممة صوت الصحافة، لكنني كنت على تواصل مع أولئك الأصحاب جميعهم الذين تفرقوا على مدارس مختلفة، اختاروا منطق الشجرة فظلوا في أماكنهم حتى اليوم واخترت منطق الطير فغيرت وظيفتي مراراً بحثاً عن سماء أكثر رحابة واتساعاً وقدرة على الاحتواء، وذات يوم حدثتني، كانت تبكي بحرقة إنسان خذله من لا يتوقع خذلانهم وبشكل لا يصدق، قالت تختصر الصدمة «لقد تغيروا يا أستاذة» قلت لها «هم تغيروا فعلاً، كبروا، حملوا شهادات عالية، شغلوا وظائف مرموقة وصار لهم أصحاب مختلفون، تغيرت أفكارهم ونظرتهم لكل شيء، بينما بقيت أنت في مكانك تنتظرينهم أن يعودوا إليك كما ذهبوا، ونسيتي ماذا حدث في المسافة التي كانت بينك وبينهم !! الذي حدث أنهم اكتشفوا ذواتهم، والذي حدث أيضا أن تلك الأم لم تنظر اليهم جيدا، لم تجربهم لتعرفهم، ظلت سنوات طويلة تحجب المرئي الذي كان واضحا أمام عينيها باللامرئي الذي كانت تتأمله وتتمناه، ترى أنانيتهم، جشعهم، بخلهم، اتكاليتهم عليها، عدم مبادرتهم للعطاء مقابل كل الأخذ الذي كانوا لا يتوقفون عنه، وكانت تقول صغار سيكبرون ويتغيرون، وحين كبروا وتغيروا فعلا صدمها الأمر، لأنهم تغيروا بشكل لم تتوقعه، مع أنه كان متوقعا ! بتقوية ملكة الأخذ تضمر ملكة العطاء هذه هي الحقيقة المفجرة للأعصاب، وهي واحدة من أسباب صدمتنا فيمن نحب تحديداً ! الحقيقة أن «الفلوس لا تغير النفوس» إنها تختبرها وتكشف حقيقتها لا أكثر، ومثلها المناصب والنفوذ والشهرة !