ضج الكلام، وهاجت الأفواه ترغي وتزبد باللغط، وتلوثت كلمات الحقيقة وسرى السم بمجراها. كانت البداية بالمغني، حين خرج مزهواً بالنشاز وفي يده نايٌ مكسور. ولألف ليلة ظل يحشرج الأسماع حتى صُمت الآذان وما عاد يفرق أصحابها بين شدو البلابل ونبح النابحين. ولذلك، حين أشرقت الشمسُ، اختلف الجميع على تفسير معنى الوضوح، وغرقوا وهم نيام في غموض مصيرهم. ولم يجد الحكماء بداً سوى الانطواء في كهوف بعيدة، لعلهم يجدون يوماً حجر الاكتشاف. وفي ذلك الزمان تسيّد ضارب الطبل ومجّده المصفقون الى الفراغ. ثم جاء الشعراء يجرون القوافي جرّ أسير، وطوعوها لتصير مدحاً لبطولات لم تتم. ولم يظن أحدٌ أن الزمان يمكن أن يدور، وأن الحقيقة، حتى لو غطوها بشراشف الزيف، تعود تكشف وجهها لمن تشبثوا بالأمل ورسموا المستقبل طريقاً لخطواتهم. هكذا أدرك العظماءُ في التاريخ أن السير في دروب النور هو ما يضمن الوصول إلى النجاة، وأن الأمم العظيمة، عليها أن تخوض الحرب ضد الأوهام دائماً، وأن تبني الجذور أولا كي تعلو صروحها حد الغمام. واذا ما اعتلّ غصنٌ، قطعته كي تزهر بقية الأغصان وتورق ظلاً على المطمئنين تحت شجرة المحبة. من نهر الأوهام يشرب الجهلة، ومن قلوب الجهلة ينبع الحقد ويصير رجلاً في يده سكين ووظيفته القتل. وما من دواء لهؤلاء سوى تجفيف منابع الأفكار المريضة، وتطهير الكلام من شوائب الدجل. وتكون البداية بالمغني حين يصدحُ بنغمة الحب ويجعلها لازمة في مواويل الحنين. وتكون البداية بالشاعر حين يخط على جدار الزمن مديحاً للقلوب التي تآخت، وصفت نواياها وهي تزرع داخل الإنسان قيمة الحب العظيم. لا يخاف الجهلةُ إلا من الحب. ولا يهاب القتلةُ، سوى مشهد اثنين يتعانقان تحت علم السلام. من أين تولدُ بذرة الشر، من الذي يبثها بين الكلمات ويسرّب شوكها للعقول المريضة. كيف لبشر آدمي، أن يصير وحشاً ويهتك براءة الحياة ويخدش جمالها لمجرد تسرب فكرة سوداء إلى قلبه. كيف يصدق أحدٌ أنه بقتل بشرٍ آخرين سيحيا ويذوق نعيم الخلود. إنها بشاعة الوهم، وما من خلاص لنا منه سوى اجتثاث بذوره من دفاتر الطفولة والدرس، ومن التلقين الأعمى. هكذا نغسل العقول والقلوب كي لا يصبح الماضي سداً في رؤى المستقبل.