في رحيل الصديق الجميل محمد ولد عبدي تجلت فكرة وداعه كشاعر عاصر الإمارات وعشقها فلم تقبل إلا أن يوارى ترابها العطر جثمانه. التفّ الجمع، وأنا منهم، من أجل وداعه بمقبرة بني ياس. حدث هذا قبل أسبوع تماماً من وداع صديقنا الجميل الآخر الأديب محمد رجب السامرائي، وشهدت مراسم دفنهما بجانب بعضهما.. هناك، تجلّت فكرة الرحيل حين لفتت انتباهي حفرٌ على مشارف الانتظار. تهيأت الأرقام وكأن الحياة على سفر والتذاكر بلا عناء تحتسب. فكرة أخرى خالصة للصديق الجميل محمد ولد عبدي الذي التقيته بداية التسعينيات باتحاد الكتاب، كان رجلاً نشيطاً، يحب المشي، وكثيراً ما كنت أراه يترجل ويسير على رصيف شارع زايد الأول، بجانب المسجد الكبير، وبمقابل من المجمع الثقافي.. كان نسيجاً من الحيوية وكأنه يرسم الوقت من دلالات فكرية وثقافية منفردة، لا يعرف مدى ذلك سوى الإنسان المتفحص للحياة الذي يتمتع بعمق فكري يتجلى في التصالح مع الحياة والآخر، فمثل محمد ولد عبدي لا يختصر على الورق، بل هو من نسيج فطري يتسربل تارة عصامياً، وتارة ناقدا فطناً، وتارة يكتب الشعر بمحبرة الزمن وأصول النقش على جدار عالٍ جداً من المعرفة والثقافة. ذات مرة، قرر ولد عبدي أو قررت اللجنة الثقافية في اتحاد الكتاب أن يقدم أمسية، حول مجموعتي القصصية مندلين عبر أسبوعية باتحاد الكتاب بفرع أبوظبي، فقلت له أنتظر حتى يحين موعد سفري حتى لا تجاملني، فضحك «رحمه الله»، وقال: أنا سأحكّم النص، ولن أبحث عن رأس المؤلف. ولم أحضر الأمسية وتناول المجموع بأسلوبه الراقي. ولد عبدي رحل بهدوء، كعادته في التعامل مع الحياة، كإنسان يستعذب الفكر والقراءة وجمالية الصورة الأدبية، فهو من النقاد الذين ساهموا بحضورهم الثقافي المبكر في الحياة الثقافية بالإمارات، وتعاطوا مع الثقافة والمثقفين، وأضافوا الكثير من ثقافتهم إلى الساحة الثقافية. رحل غير ملتفت إلى قاعات التصفيق، ولا خصوصية الحضور.. رحل جميلاً مكتفياً بالفكر وليس بتحرير اسمه على لافتة الطريق.. وهذا هو الأديب الحق المخلد في صوته الشعري، المتجلي كفكرة، سواء كانت شعرية أو نقدية.. يظل أديباً كما قال، رحمه الله: ها أنا/ مجرد لفظ/ لم أكرر أحداً/ وما كرّرني/ قد اختفى يوماً خلف أحفادي أو أغرقهم في ليل معناي، لا يهم/ ان الشجرة لفظ لا يوجد إلا في ذهن الغابة.