سأكتب عن الكتابة التي لا تريد أن تأتي؛ عن تلك المساحة البيضاء التي تخرج لسانها استهزاء بي كلما ذهبت ببصري بعيدا عنها مبحلقة في أي شيء آخر لعله يستفز بي حروفا وكلمات أبت أن تبارح مكانها في أعماقي. سأكتب عن لوحة المفاتيح التي تعاند رغبتي الصادقة في البوح والحكي. كنت أكتب عن أي شيء وكل شيء، عن الرقص والطعام والضحك والحب، عن أشياء عصية على الكتابة، عما لا يمكن أن يقال إلا في الجلسات الخاصة لصديقاتي اللاتي كن يتفاجأن بجرأتي في القول المكتوب. أما الآن فها هو القلم يرفض الحكي وكأن العجز أصابه، يتكئ على خبرة وعمر كان من المفترض أن تجعله يحلق بما يملك ولكن ذلك لا يحدث. قلمي أصيب بداء الحكمة ثقيلا لا يناسبه أن يكتب عن الضحك والرقص والحب، يعاند رغباتي الأصيلة ويخبرني أن ذلك لا يجوز.‏‏ من الذي حدد ما يجوز، وما لا يجوز! من يكتب الآخر أيتها الكتابة؟ بدون وعود واتفاقيات هكذا بدأنا كل بيد الأخرى نمضي معا في هذا الطريق الذي وجدنا أنفسنا فيه.. نختبر معا كل ما حولنا ونرى ما يفعله بحواسي. تأتيني الكتابة في كل وقت وبلا مناسبة، أثناء الاستماع إلى الإذاعة في السيارة وأنا أقرأ وأنا أشاهد فيلما، وأنا في طريق العمل، وأنا مع صديقاتي، وأنا أستمع لمحاضرة، وأنا أتبضع، تلاحقني كأنها خلفي توشوش في أذني، لا تجعلني أقبل أي شيء كما هو، تطرح عليّ الأسئلة وتعيد صياغة ما استوعب بطرق أخرى. تكون الكتابة في أفضل حالاتها عندما نتجادل ولا نتفق، تصبح سخية لا تتوقف عن المنح. نتجادل ونختلف ولكنها دوما تمنحني نصا بلا قيود أدبية لا يتبع مدرسة ولا نهج له، ولكنه مني ويشبهني، يشبه امرأة بلا قيود ولا نهج. وها هي الآن تأتي في أسوأ أحوالها.. تلف وتدور حول فكرتي، تدفعني لصوغ ما أريد بكلمات منمنمة خوفا من أن يفهم لها معنا آخر؛ كالجرّاح القابض على مشرط يحركه على جسد مريض بحرص شديد مبالغ فيه، خوفا من أن يقطع شريانا أثناء بحثه عن مكان العلة للتخلص منها. الكتابة من أكثر الأفعال حساسية.. ولذلك يدرك الصادقون فعلا، هل كتب هذا النص في غرفة العمليات.. أم في الهواء الطلق!؟