علاقتي بعلامات الترقيم في الكتابة بدأت منذ وقت مبكر جداً، وترسخت على يد أساتذة تلقيت منهم فنون الكتابة في عملي كباحث بـ«مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية»؛ ولأن الكتابة كانت في السياسة، كان لهذه العلامات دور حساس جداً؛ وهي الحساسية التي ظلت ترافقني طوال الوقت تجاه كل ما هو مكتوب وحضور علامات الترقيم فيه. حسب ما أعتقده أن إجادة استخدام علامات الترقيم في النصوص المكتوبة، يدلل على قدرات الكاتب في التواصل الناجح مع قرائه؛ إذ يتحول المتلقي القارئ إلى مستمع ومشاهد للكاتب الذي يفلح بدوره في إيصال انفعالاته ومواقفه ودلالاتها بطريقة دقيقة ومنظمة وأمينة، وكأنه في خطاب شفوي خاص ومباشر مع القارئ تتضح فيه لغة الجسد ونبرة الصوت. هذا شأن علامات الترقيم مع ما نكتب؛ ولكن هل لها شأن آخر مع من نعيش بينهم؟ أعتقد «نعم»، فكما نحتاج «الفاصلة» في الكتابة للتمهل ونقل المعنى بوضوح من جملة إلى أخرى جديدة مكتملة المعنى كسابقتها، نحتاجها في تعاملاتنا مع البشر، نحتاج إلى فواصل واضحة طوال الوقت نضعها مع الآخرين، تحمينا وتحميهم، تسمح بالتواصل ولا تقطعه، تربطهم بنا ولا تلصقنا بهم؛ فواصل تسمح بالراحة وتبشر بالعودة. وكذلك حين نستخدم في الكتابة «النقطة» للدلالة على وقف اللفظ والفهم قبل البدء، فإن الحياة تفرض علينا أموراً نضطر إلى استخدام النقطة لإنهائها، والبداية من جديد بشكل مختلف ووجهة مختلفة مع أشخاص مختلفين. وعلى عكس الصرامة والحزم في «النقطة» يبدو حال «الفاصلة المنقوطة» مائعاً، فإذا كانت تستخدم في الكتابة للدلالة على اتصال جملتين كل منهما مكتملة المعنى ولكنهما متصلتان في الفكرة، أو بينهما علاقة سببية؛ فإنها في الحياة خَيار يستخدم على نطاق واسع في علاقاتنا التي نقف أمامها حائرين بين الفاصلة والنقطة! نستخدم علامات الترقيم في الكتابة لإعطاء الكلمات والجمل حقها من نبرة الصوت ولغة الجسد، لمن يقرأ ما نكتب؛ واستخدامها في الحياة يعطي من حولنا حقوقهم، على قدرهم، وعلى قدر علاقتنا بهم، بدون إساءة؛ فالحياة تشبه النصوص الخالية من علامات الترقيم، تأتي مربكة عسيرة الفهم، تحتاج إلى زمن طويل لفهمها.