عبدالرحمن الأبنودي شاعر العامية الفصيحة، يخرج من دائرة الضوء إلى عتمة النهايات القصوى، متأبطاً مجده الشعري، ووجده المصري، وهمه العربي.. الأبنودي ابن الصعيد غنى للإنسان فمنحه شعر التفاؤل، وأثرى الأغنية الجادة بشعر طاف به أرجاء الوطن العربي على لسان فايزة أحمد وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وشادية، وكان هذا العملاق نجماً، دارت من حوله كواكب الفنانين ينهلون من شعره، فلحنوا أجود الأناشيد والأغنيات، فسكنوا وجدان الناس من مشرق الوطن حتى مغربه، كما استولى شعره على براعم الكلمة، واحتل مكانة عالية في الأدب العربي والشعبي بالذات. الأبنودي، شاعر من الزمن الجميل، أناخ بعير الشعر عند هضاب معشوشبة بالقلق، فأصاخت له الآذان، وشخصت له الأبصار، لأنه كان ينحت في لوحة الكلمة، متقصياً المعنى في جذور التاريخ المصري العتيد، متكئاً على آرائك ثقافة أدمنت الرسوخ والشموخ. وبرحيل الأبنودي تبدو الكلمات مثل طيور قصت أجنحتها، والعبارة تخب كأنها النوق الظالعة في الفجيعة، برحيل الأبنودي نكون قد فَقَدنا قامة شعرية، مدت أشرعة السفر الطويل على مدى ستة وسبعين عاماً، كان الأبنودي يضع مشرط الشعر في جسد عربي طالما عانى من أمراض عضال، وطالما واجه معضلات شوّهت جغرافيته، وكبتت مشاعر أبنائه، ولكن مع كل ذلك كان يختم أنشودته الشعرية بسيمفونية متفائلة، توعد الإنسان إلى أن يغادر منطقة اليأس ليثب إلى منطقة الفرح، إيماناً منه بأن الوطن العربي غني بقدرات النهوض، وأدوات النجاح، وطاقات الظفر بخطوات تبعد عن منطقة الخطر. الأبنودي يرحل، وقبل أن يرحل يسجل في قاموس الشعر أن مصر ولاّدة، وأن عملاق الشعر لا يخبؤ مداده، وأن الأهرامات شاهدة على عصور مصر، كما هو الشعر الذي بدا كما هو النيل، كلما طافت غيمة حزينة كلما ازداد فيضاً ناهضاً باتجاه العشاق، يسقيهم ويرويهم، ويعتني بأعشابهم، كما يغدق أشجارهم باخضرار لا يبهت، وأنوار لا تخفت. الأبنودي يرحل وحب عشاقه يلف شعره ببياض المراحل المكللة بمجد الشعر. والذين طلعوا بمصر نحو هامات السحب، وأسسوا من الصخب خصباً، ورتلوا آيات الحلم، داعين الله أن يحفظ مصر وأهلها، ويجعل مبدعيها القطنة التي تضيء ليالي الدفء.