«كل شخص يؤخذ من كلامه ويرد عليه »، ينسب هذا القول للإمام مالك، وقد قيل بأنه قاله في معرض الجدل حول عصمة العلماء والآراء، فهناك من يؤمن - للأسف الشديد- بعصمة بعض الأشخاص وبأنهم منزهون عن الخطأ والزلل وانحراف الرأي، وعلى هذا المعتقد قامت مذاهب وفلسفات قاربت بين هؤلاء الأشخاص وبين صفات الألوهية واتخذت من هذا الانحراف وسيلة للسيطرة على عقول الجهال والمغفلين والسذج، وبهؤلاء أسس بعضهم أحزابا ودولا حتى يومنا هذا، وهناك من يؤمن بأن بعض الآراء صحيحة في ذاتها لا تقبل الخطأ، وأن على الناس أن يقبلوها كما هي من دون نقاش أو نقد أو نقض، وهؤلاء أيضا يجدون جمهورهم من الجهال والمغفلين والسذج الذين لا رأي لهم ولا منطق ولا حجة، فنراهم يستسلمون لكبارهم أو زعمائهم في كل ما يقولونه لهم، وكم تعرض المسلمون للتهكم والسخرية بسبب هؤلاء وأولئك! الإمام مالك حسم الأمر - لنا كمسلمين على الأقل - بقوله « كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر » وصاحب القبر المقصود هو النبي صلى الله عليه وسلم، وطبعا نحن لا نناقش الرسول كنبي ولا نناقش ما قاله كوحي، لأننا نؤمن بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ما عدا ذلك فحتى الرسول قال لرجل في المدينة سأله عن تلقيح النخل «أنتم أعلم بشؤون دنياكم » وسواء صح هذا الكلام أم لم يصح، فهو منطقي تماما ويتسق مع وصف الله للأنبياء في القرآن باعتبارهم رجالاً يأكلون ويتحركون كبقية الناس في طبيعتهم البشرية وهم بشر في نهاية الأمر يتفوقون على بقية البشر في التكريم الرفيع الذي خصهم الله به باختيارهم لحمل رسالة النبوة! لا أحد إذن معصوم ولا أحد فوق النقد، لكن هناك فرقاً بين النقد والنقض، وبين مخالفة رأي كاتب أو مفكر وسياسي وبين التهجم عليه وإهانته أو إهانة منطقه وطريقته في الاستدلال والاستنتاج، وكون كاتب ما له تاريخه وجمهوره ومواقفه قد تناول قضية من القضايا بالنقاش والتفكيك بينما هي في نظر البعض من المحرمات التي لا تناقش ولا تمس يجوز الاقتراب منها، فإن ذلك لا يعطي هذا البعض أي حق في مهاجمة الكاتب أو تسفيه رأيه والحديث معه بتلك الأستاذية البغيضة أو الفوقية التي لم يعد لها محل من الإعراب بعد أن سقطت كل الأقنعة وتهافتت كل المقولات التي آمنت بها أجيال من العرب! العقل النقدي والتفكير المنهجي والموضوعي لا زال كالحكمة ضالتنا وبعيدة عنا للأسف في ظل هذا العقل وهذا التفكير المتعصب الذي يسيطر على الجميع.